كثُر الكلام في نظرية فقه اللغة، وعلم اللغة، و ألفت فيها مئات المؤلفات اللغوية، وقد أطنب البعض في المصطلحات التي اشتملت عليها هذه النظرية، ولم نقف على تعريف خاص موحد لماهية اللغة بدءاً من ابن سيده، الذي يقول: “اللغة هي عبارة عن أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم”، إلى العلم الحديث الذي يرى “انها مجموعة من الرموز يعبر بها الإنسان عمّا يعتمل في داخله”، إلى المعاصر الذي يرى “أنها مجموعة الأصوات التي تتركب منها الألفاظ والتي بدورها تتركب منها العبارات والجمل التي تنطق أو تكتب؛ والكلمة هي الوحدة اللغوية الأساسية التي تشارك مشاركة فعالة في تكوين معارف الإنسان وتجاربه وأفكاره وصوره الذهنية”.
هذا وقد تشعبت فكرة نشأة اللغة منذ عصر افلاطون الذي يرى أنها توقيفية، مروراً بأرسطو القائل بالاصطلاح، والرأي الذي يقول إنها طبيعية جاءت من خلال المصادفة والمشاهدة، وأنها تحاكي أصوات الطبيعة، ولم تأتِ هذه الافكار من فراغ، وإنّما من خلال البحث والتنقيب والدراسة توصل كل قوم إلى نظريته القائل بها، ولمَّا جاء الإسلام وُضعت هذه النظريات على طاولة التشريح والتفقه، فذهب قومٌ إلى توقيفيتها، واستدل على ذلك في قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} {سورة البقرة، الآية:31}، وقالوا بتوقيفية اللغة لأنَّ الله علمها لآدم، عليه السلام، ولكنهم غفلوا تكملة الآية المباركة التي تقول : {فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}، وكلمة {هؤلاء} تدل على شخصنة الأسماء، فالآية المباركة لم تعنِ اللغة، وإنَّما عنت أسماءً بذواتهم، بغض النظر من هؤلاء، لكنها عَنت أسماء وليست اللغة.
أمَّا الجبهة الأخرى قالت باصطلاحية اللغة، أي إنَّها جاءت من خلال الاتفاق، وهذا يعني: أنَّ عدداً من العلماء اتفقوا على أسماء الأشياء فشاعت الأسماء بعد ذلك على الاشياء، وهذا الرأي لم يثبت تأريخياً، فلم ينقل لنا التاريخ أنَّ مجموعة من العلماء جلسوا وتحدثوا ووضعوا أسماءً للأشياء، وإذا ثبت هذا فإنَّ القرآن الكريم يكون تابعاً لهذه المصطلحات لأنَّه جاء بها -معاذ الله- فالقرآن هو أصل اللغة، وإن تأخر نزوله والدليل على ذلك قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ} {سورة الرحمن، الآية:3} ، فالقرآن قبل خلق الإنسان.
أمَّا الجبهة الثالثة التي تقول بطبيعية اللغة، أيضاً فيها نظر، فلم تكن جميع الأشياء مؤاتية لما ذكروه، ربما بعض الأصوات جاءت بهذه النظرية مثل فحيح الأفعى، أو مواء القطة، أو عوي الذئاب وغيرها لكن ليس كل الأشياء .
أمَّا نظرية المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي، فهو يرى: أنَّ نشأة اللغة هي مزيج من التوقيف والاصطلاح والطبيعة؛ أمَّا ما يختص بالتوقيف، فهو التعليم اللدنِّي من قبل الله -تعالى- بالمباشرة للعبد، إمّا عن طريق الوحي، أو الإلهام، أو التكليم المباشر، فهذا توقيف، ولا دخل للإنسان في صناعة الألفاظ وإلصاقها بالمعاني.
وما يخص الاصطلاح: من الممكن ابتكار أو ابتداع كثير من المصطلحات أو الأسماء لمعان حسية ظاهرة، على سبيل المثال: لفظ المجاز “اصطلحه العلماء على اللفظ المستعمل في غير ما وضع له مع قرينة دالة عليه، أو مفهوم التناص”، اصطلحته جوليا كريستيفا على الاقتباس المباشر وغير المباشر وغيرها من المصطلحات والأسماء، وهذا للمثال لا للحصر.
وأمّا ما يخص الطبيعية في اللغة، فربما أنّ بعض الألفاظ جاءت مطابقة لأصوات الحيوانات مثلا، أو الألوان أو غيرها، فالنشأة جاءت من خلال الاشتراكات بين النظريات بشكل عام، وليس لنظرية دون أخرى، فلا التوقيفية استأثرت بالنشأة، ولا الاصطلاحية، ولا الطبيعية .
وهذه الفكرة التي جاء بها المرجع المدرسي، تُعد ناهضة وفاعلة، وقابلة لوجهات النظر جميعها، وهي من باب البدء من حيث انتهى الآخرون، ولم تكن هذه النظرية دون تطبيق، فقد وجدناها بجميع مفاصلها في ثنايا كتبه القيِّمة، وبالخصوص فيها بحث مفصل في كتابه؛ فقه الاستنباط، الجزء الثاني منه، فقد طبَّق هذه النظرية تطبيقاً فعليا بالأدلة .
روافد المقال
1- المخصص : ابن سيده، مطبعة بولاق .
2- علم اللغة العام : فرديناند دي سوسير .
3- الحصيلة اللغوية : د. أحمد محمد المعتوق .
4- من هدى القرآن : المرجع المدرسي .
5- فقه الاستنباط : المرجع المدرسي .
6- البلاغة في سؤال وجواب : د. ضرغام الموسوي
——————
-
كلية العلوم الإسلامية- جامعة كربلاء