ما يميزنا عن الشعوب والأمم في أمر التراث والتاريخ، أن ما نسمع به ونراه في العالم ما هو إلا قصور، وقلاع، ومقتنيات، الى جانب شخوص، بعضها على شكل تماثيل حجرية او برونزية، فيما الكثير من الاسماء قابعة في بطون الكتب التاريخية، ويستذكر الناس أبطال ومآثر هؤلاء وما قدموا من انجازات في الايام الخوالي.
بينما نحن الذين نلتزم بحرمة تجسيم شخصياتنا العظيمة وفي المقدمة المعصومين الاربعة عشر، عليهم السلام، كما نفتقد لمعالم أثرية من حياتهم، مثل البيت، او المقتنيات، نبدع في بعث الروح فيما تنقله الروايات التاريخية عن نمط حياتهم، وطريقة تفكيرهم، ثم نجعل من هذه السيرة نظاماً ومنهجاً عملياً لتطبيقه في حياتنا المعاصرة، بالاستفادة من التجارب والعِبر، فنكون قادة ومصلحين ناجحين مثل رسول الله، ومضحين في سبيل قيم الحق مثل أمير المؤمنين، وشجعان أمام الباطل في قمة الحشمة والوقار مثل الصديقة الزهراء، ومسالمين منتصرين مثل الامام الحسن المجتبى، وثائرين مصلحين مثل الامام الحسين. وبكلمة؛ نتميز عن العالم بأن لنا قدوة نعمل بها وفق منهجهم، و أسوة نتأسى بها أحوالهم على أمل بلوغ الفلاح والنجاح، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.
لقد كانت أرض فدك عبارة عن بساتين مليئة بالنخيل والاشجار والعيون، يفترض ان تكون واحة جميلة تفرج الهم والغمّ عندما تطأها اقدام الزهراء، ولكن؛ كان همّ الزهراء تفريج الهم والغمّ عن نفوس الفقراء والايتام والمحتاجين
ونحن نعيش أيام ذكرى سعيدة تفوح بعطر الجنان؛ ذكرى مولد الصديقة الزهراء، سلام الله عليها، أجدني ملزماً بالخروج من الكتاب وسرد الاحداث وتنظيم الافكار الى صميم واقعنا الاجتماعي الذي ينعكس بسلبياته وايجابياته على الواقع السياسي والاقتصادي، فالمجتمع الذي يعرف كيف يربي أطفاله، سيجد هؤلاء الاطفال طريقهم الى مراقي التقدم الاقتصادي والنجاح السياسي، كما أن الفتاة الصغيرة التي تجد طريقها الى الوعي والثقافة وتحمل منه الى بيت الزوجية في قادم الايام، ثم لتحوله الى نظام تربوي لاطفالها، فانها تشعل النور أمام اطفالها ليكونوا علماء، وادباء، وأبطال مصلحين في مجتمعهم وأمتهم.
ولعل هذا يفسر جانب من السر الإلهي لجعل فاطمة، الخلف الأوحد لرسول الله، وأن تكون أنثى لا ذكر. أي تكون زوجة وأم، بكل ما تعنيه الكلمة من دلالات ومعاني.
السيدة الزهراء لم تر غضاضة من الخروج من البيت الى مكان عام مثل المسجد، مادامت تحتفظ بكامل حجابها وحشمتها
-
كيف كانت الزهراء؟!
- طفولتها وعلاقتها مع أبيها العطوف الحنون التي لا تقبل انتهاك حرمته والتطاول عليه من أيٍ كان. كانت الصديقة الزهراء ابنة السادسة والسابعة من العمر، وهي ترى اباها يتعرض للإهانة من قبل كفار قريش في مكة، فتستقبله من باب البيت وهي تزيل عن وجهه ورأسه ما ألقته يد الشرك والضلال والجهل من أوساخ وهي تبكي بكاءً مراً.
- الفتاة الواعية: يقال من علامات العقل، او العاقل؛ حسن الاختيار، وهكذا كانت الزهراء عندما عرض عليها أباها طلب علي بن أبي طالب الزواج منها، فلم ترفض ولم توافق، إنما سكتت، فجاء تكبير النبي الأكرم: “الله أكبر، سكوتها من رضاها”، فربما تقدم من الاصحاب الصالحين، لكنها لم تجدهم أكفاء لها، وهذا يكشف عن عمق معرفتها بشخصية أمير المؤمنين.
- ملابسها: خرجت الصديقة الزهراء من بيتها للمطالبة بحقها في أرض فدك، فلقيها المسلمون وهي تشق الطريق نحو مسجد رسول الله حيث يجتمع كبار القوم من أهل السلطة والحكم. يقول الرواة: كانت تتعثر في مشيتها لطول إزارها وثوبها، فهي لم تر غضاضة من الخروج من البيت الى مكان عام مثل المسجد، مادامت تحتفظ بكامل حجابها وحشمتها.
- المرأة الثرية: الروايات التاريخية تنقل لنا حياة الزهد والتقشف الى حد يخال البعض انها كانت تعيش الفقر والحاجة، في حين كانت تملك أرض فدك ونصف ايراداتها التي تقدرها المصادر التاريخية بنحو 24 الى 70 الف دينار ذهب سنوياً، ودينار الذهب الواحد حسب بعض العلماء اليوم يساوي اليوم سيارة حديثة في الوقت الحاضر.
لقد كانت أرض فدك عبارة عن بساتين مليئة بالنخيل والاشجار والعيون، يفترض ان تكون واحة جميلة تفرج الهم والغمّ عندما تطأها اقدام الزهراء، ولكن؛ كان همّ الزهراء تفريج الهم والغمّ عن نفوس الفقراء والايتام والمحتاجين.
- الزوجة الصالحة: يدخل عليها أمير المؤمنين ذات يوم ليستريح في بيته عند زوجته الزهراء، عليها السلام، فطلب منها شيئاً من الطعام يأكله، ففاجأته بأنها تفتقد الطعام لثلاثة أيام، فقال لها: لماذا لم تخبريني ـ مضمون الرواية -؟ أجابت: أوصاني أبي رسول الله أن لا أكلفك ما لا تطيق.
- الأم المربية: بينما كان رسول الله على المنبر يخطب في الناس، يعظهم ويبين لهم أحكام السماء، كانت ترسل ابناها الحسن والحسين ليسمعا ما يقول جدهما ثم يعودا قبل ابيهما أمير المؤمنين، ليعيدا عليها كل ما قاله، صلى الله عليه وآله، فكانت تسبق أمير المؤمنين بما تحدث به النبي الأكرم.
- المثالية في العلاقة: مع الجارعندما نسمع الرواية عن الزهراء وحديثها مع ابنها الحسن بأن “يا بني! الجار ثم الدار”، فهي إنما تجسد وتطبق عملياً حديث أباها رسول الله بالحرص على حسن الجوار، حتى أن احد الاصحاب قال: لقد أكد علينا رسول الله بحسن الجوار حتى ظننا أن الرجل يرث جاره.
- الشجاعة أمام الباطل: نسمع بمن يدعو الى استبسال المرأة ودفعها نحو ساحات البطولة والظهور بمظهر القوي المقتدر في كل شيء، والصديقة الزهراء تبين لنا اين يجب ان تكون بطولة المرأة وشجاعتها، ومتى يجب ان تتكلم وبكل جرأة وقوة؛ إنها جبهة الحق أمام الباطل، والفضيلة أمام الرذيلة، ومطالبة الزهراء بفدك ليس كما فعلن الأخريات بحثاً عن الامتيازات والاموال والذهب في زمانها، – وما تزال البعض على هذه السيرة – لان ايرادات فدك المالية لم تكن لتغير شيئاً من حياتها المفعمة بالايمان بالله، إنما كانت فرصة لكشف الزيف والانحراف والتستر بظواهر الاسلام للوصول الى منافع دنوية، وإن كلف ذلك حياتها.
بعد هذه اللمحة الخاطفة لسيرة حياة الزهراء، عليها السلام، يجدر بنا اجراء جرد لسيرة حياتنا وطريقة تفكيرنا وسلوكنا ثم اجراء مقاربة لنجد أين نحن من هذه التحفة الربانية للبشر؟ ثم لنكتشف مواطن الخلل بغية الترميم لانقاذ ما يمكن انقاذه مما نعيشه من ويلات ومحن وأزمات متشابكة بسبب ابتعادنا عن هذه السيرة العطرة.