تعيش الأمة الإسلامية في العصر الراهن تحدياً حضارياً شاملاً. فعلى الرغم من أن التحدي الحضاري ظاهرة لازمة في الأمة، وأنه لم يجد المسلمون عبر التاريخ فترة استراحة، غير أن التحدي الحضاري الجديد قد اتخذ طابعاً مختلفاً، يجوز ان يتحول إلى مواجهة حضارية شاملة للجوانب الفكرية والسياسية والاقتصادية والعسكرية، وهي عموماً، تحديات مصيرية، لكونها تعتزم اكتساح الحضارة الإسلامية ووجود الحس الإسلامي برمته، حتى لاتعود هذه الحضارة قادرة على النهوض أبداً..
ولايخفى أن المواجهة الحضارية تتجسد في مظاهر عديدة، بيد أن نقطة واحدة تقرر مصيرها النهائي لصالح الأمة أو لصالح أعدائها.. تلك هي؛ جدارة الفكرة الحضارية بالبقاء، فبقدر ما تكون الفكرة مفعمة بركائز التحدي والتقدم والنصر، وبقدر ما تبعثه في الإنسان المنتمي لها من الإيمان والمعرفة، سيكون تقدم الأمة وانتصارها.
ولن تغني الفكرة الحضارية شيئاً لو لم تملك الأصالة والواقعية، أو كانت عاجزةً عن تحميل نفسها على كتف الحياة؟ حتى تصنع أفذاذاً، وتصنع بهم حضارة متفوقة، إذ بدون التفاعل بين الإنسان والفكرة، كيف يتسنى للإنسان أن يغير واقع الحياة وهيكليتها؟ فهل تتقدم أمة تملك خزيناً ضخماً من الفكرة الحضارية لو لم تتحول فعلاً إلى عطاء وعمل؟
-
الإسلام إيمانٌ وعمل
ولذا؛ فإن الإسلام لن يفيد الأمة شيئاً مادام مجرد فكرٍ تاريخي يقبع في أذهان المسلمين دون أن يتحول إلى وهج حضاري يتفاعل مع الإنسان في الواقع الخارجي، وهذا لن يتحقق مالم يظهر الإسلام على مسرح الحياة ليؤدي دوره بكل قوة بوصفه فكرة حضارية خلاّقة.
إن الإسلام كدين، والإسلام كتأريخ، يختلف كثيراً عن الإسلام كإيمان وعمل، وبالتالي، كفكرة حضارية.
إذاً؛ الدين بمفهومه الشائع عقيدة وانتماء، والتاريخ تتمثل فيه العبر والحِكم، أما الإيمان؛ فهو أصالة وكينونة، فيما الحضارة حركة وحياة، وبين هذه الحقائق فاصل شاسع..
فالمسلمون كونوا أمة، وكوّنوا حضارةً، ولنا أن نتساءل في هذا الإطار عما إذا بقي المسلمون أمةً؟ وهل هم اليوم خير أمةٍ أخرجت للناس؟ وهل أنهم يمتلكون القدرة على بناء حضارة، بل هل هم اليوم حماة حضارة؟
ببالغ الأسف، واقع الأمة اليوم هو افتقارها لأوليات مفهوم الأمة بالاساس، وهي؛ الوحدة، والتعاون، لذا لم تعد خير أمة، لأن افراد هذه الامة لا يملكون كفايتهم من الإيمان والعلم، ولم يعودوا يبنون أو يحمون حضارة، لأنهم -وبكل أسف مرة أخرى- يعانون نكبات ثقافية وسياسية وعسكرية، وتخلفاً اجتماعياً وعلمياً واقتصادياً، ومن ثمّ، فإن إسلام الأمس لايغني عن إسلام المسلمين اليوم.
-
كيف نحول أمسنا إلى اليوم؟
والإجابة بسيطة جداً، وتتمثل في لزوم طي الزمان، و ردم الهوة التي تفصل اليوم عن أمس، ليتصل يومنا بيوم تقدمنا، وننطلق منه نحو النجاح.
وكل ذلك، لأننا بحاجة إلى واقعين: قاعدة بناءٍ، ومنطلق مسيرةٍ، وهما في الواقع أصالة وانفتاح، وعدم توفرهما معاً يعني الخسارة الأكيدة و المحتومة للمعركة الحضارية.
وليس من شك أن الاستلهام من الدين الصحيح يشكل القاعدة و المنطلق والأصالة، بينما الانفتاح على الواقع والحياة يشكل التفاعل والمسير، فنحن -إذاً- بأمس الحاجة إلى “الإصالة”، و”الانفتاح”، ولابد من السعي إلى تحقيقهما عبر مراحل ثلاث:
ألف- مرحلة التأصّل، وتعني محاولة استيعاب الفكرة الحضارية التي تتمثل في الدين الإسلامي إيماناً وعلماً.
باء- مرحلة النهضة، وتعني استشعار التخلف، والاستيقاظ من السبات التاريخي العميق، والرغبة في الحياة مرة أخرى.
جيم- مرحلة التفتح، وتعني السعي الحثيث نحو الاستفادة من معطيات العلم الحديث.
إن هذا هو الخط الواضح الذي لايمكننا أن ننجح دون الالتزام به، والوفاء بمتطلباته ومقتضياته.
إلا أنه يبدو أن هناك عقبة كأداء تعترض طريقنا للنجاح، وبمدى قدرتنا على تحديها، تتجلى جدارتنا بحماية حضارتنا التليدة وبنائنا للحضارة الجديدة، وهي –العقبة- طبيعة التطرفات اليمينية واليسارية التي تدفع بالمسيرة إلى الانحراف عن خطها القويم. فاليمين يحاول تجميدنا على الأوضاع الفاسدة، واليسار يهدف إلى تمييعنا في بوتقة الانحرافات المستجدة. اليمين يدعي الأصالة ويرفض الانفتاح، واليسار ينعق بالانفتاح ويصور الأصالة رجوعاً ورجعيةً.
و ما هو واضح وضوح الشمس، أن اليمين بعيد عن روح الإسلام بُعد المشرقين، لاسيما وأن الإسلام منفتح كلياً على معطيات العقل والعلم، ويرفض التقوقع ضمن توابيت القديم، وهي التوابيت التي تمدد فيها اليمين مريضاً أو ميتاً غارقاً في أحلام الاغريق والبراهمة والوثنية المشركة!
أما التطرف اليساري؛ وهو الآخر عقبة في طريق نجاح المسلمين في العصر الراهن، فقد راح ينظر إلى الواقع بعيون مستعارة، فدعا إلى رفض كل أصيل ولعنة كل قديم، وقد التبس عليه الأصيل والقديم، وقال بأنهما سبب التخلف، وإنه لابد من البراءة منهما!
وقبل ذلك، عمد المتزمتون إلى احتكار الدين على حدود معينة من السلوك، فتشبهوا برجال الكهنوت، ساعين أثناء ذلك إلى تجيير النصوص الشرعية المخالفة لتخلّفهم إلى ما يصبّ في مصالحهم ومصالح من يدفع لهم من الحكام، فأخذوا يؤولون فيها ويحرّفونها ويفترون على الله الكذب.
وفي الطرف المعاكس تماماً، كان الانهزاميون -الذين لم يعرفوا الدين ولا الإيمان- يقومون بدور مماثل للمتزمتين، ولكن من منطلق متفاوت، إذ عملوا على تجريد الإسلام من روحه الوثابة الناصعة، ومبادئه الفطرية الصائبة، وتمييع أحكامه، وتوجيه نصوصه وفق حضارة الغرباء الحديثة، ناسين أو متناسين متطلبات الإنسان، عقلاً وفطرةً.
و بذلك، ضاعت الأمة الإسلامية المرتقبة والحضارة الإسلامية المنتظرة، بين هذه الاتجاهات المتطرفة، وأصبح الإسلام أداةً يستعملها الجاهل والديكتاتور، ولم يعد من الدين إلا رسمه.
-
طريق النهضة والخلاص
وبين هذا وذاك، أضحى على المؤمنين المخلصين أن يحدّدوا طبيعة وخطر هذه العقبة، ويوضحوا لإخوانهم في الدين طريق النهضة والخلاص، وذلك عبر تجريد الإسلام من المذاهب والفلسفات الجاهلية التي نسبها المنحرفون إلى الدين، حتى يعود كما أنزله الله تعالى، فكرة رائعة تدعو الى تعلم الإنسان فن الحياة وصناعتها، وكذلك عبر تجريد الحضارة الحديثة مما شابها من سلبيات الإنسان الأوروبي ونظرته الضيقة المحدودة، وذلك بدراستها في ضوء العقل وهدى القرآن والعترة النبوية المعصومة، دون تقليد أو انغلاق، و اعتماداً على أصالة الإيمان في بناء حضارة قوية وسليمة وخلاّقة.