-
مقدمة تاريخية
في التاريخ العربي قامات ترفع الهامات فخراً وشرفاً وسؤدداً، مهما ظلمها التاريخ المكتوب إلا أن عطرها يبقى ساكناً في الجنبات يشمه أهل الطيب، ويعرفه أهل الخبرة.
فالتاريخ العربي والإسلامي أهمل أهل الفضل، حينما أهمل الحكام والسلاطين أهل البيت الأطهار، عليه السلام، وسبب ذلك أن الطغاة لا يُطيقون أن يُذكر غيرهم بالخير وهم وآباءهم ليس لهم بالخير ذكر ولكن غفلة من الزمن صاروا حكاماً لا سيما صبيان بني أمية أبناء الشجرة الملعونة في القرآن، تلك الشجرة الخبيثة التي كانت أبغض الخلق والخليقة إلى الله ورسوله، حيث حاربوا رسول الله، صلى الله عليه وآله، في كل الحروب حتى غلبهم في الله فكمنوا واستسلموا للأمر الواقع، ولما أمكنتهم الفرصة عادوا إلى دينهم الأول فقتلوا أهل البيت جسدياً وحاولوا قتلهم معنوياً فشرَّعوا سبَّ أمير المؤمنين الإمام علي، عليه السلام وأهل البيت لأكثر من ستين سنة ظناً منهم أن يدفنوا ذكرهم، وأنى لهم الوصول الى مرادهم الخبيث.
فاطمة الكلابية كانت مثلاً رائعاً في المثل الأخلاقية، فعندما دخل بها الإمام علي، عليه السلام سألها حاجتها، حسب عادة الزيجات يومئذ، طلبت حاجة وحيده – حسب رواية تاريخية-: بألا يُناديها باسمها فاطمة! قالت: بلى؛ أخشى أنه كلما تناديني بهذا الاسم (فاطمة) أن يتذكر أولاد فاطمة الزهراء، عليها السلام، أمهم فتتجدد أحزانهم
-
عقيل بن أبي طالب
من تلك القامات الفكرية والعلمية كان سيدنا عقيل بن أبي طالب، عليه السلام، الأخ الأكبر لأمير المؤمنين، وكان عالماً بأيام العرب وأنسابهم وهو الذي أخذ منه هشام بن الكلبي وغيره من النسابين هذا العلم ولكنه أُهمل لأنه أخ علي بن أبي طالب، كما كُفِّر أبوه مؤمن قريش أبو طالب، عليه السلام، لنفس السبب والذنب أنه حمى رسول الله، صلى الله عليه وآله، بعد أن ربَّاه، وأولد عليّا، فكان ومازال ذنبه عند قريش وأتباعها لا يُغتفر فهو كافر عند الوهابية، وفي ضحضاح من النار عند غيرهم والعياذ بالله ولولاه لما كان الرسول وما كانت الرسالة.
هذا العلامة الهاشمي وبعد وفاة سيدة النساء فاطمة الزهراء، عليه السلام، بسنوات جاء إليه أخوه أمير المؤمنين، ساعياً بحاجة تعددت لها الروايات التاريخية، ولكن سماحة السيد المرجع المدرسي (حفظه الله)، له رأي تربوي رائع يقول فيه: “حركات عباد الله الربانيين تتجه إلى قبلة واحدة، هي رضوان الرَّب، وهكذا تجدهم إذا تزوجوا أو ابتغوا ذرية فلغاية ربانية، وكان الهدف الأسمى للإمام علي، عليه السلام، من زواجه من فاطمة بنت حزام الكلابية أن يرزقه الله منها ولداً ينصر نجله الحسين، عليه السلام، في كربلاء، تقول الرواية التأريخية؛ لقد قال الإمام أمير المؤمنين علي لأخيه عقيل: “انظر لي امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب لأتزوجها فتلد لي غلاما فارساً“، فقال له: تزوج بأم البنين الكلابية، فانه ليس في العرب أشجع من آبائها.. وأضافت رواية أخرى بعد قوله؛ فتلد غلاماً فارساً، هذه الكلمة: (ينصر الحسين بطف كربلاء)، لقد رسم الإمام صورة واضحة لهدفه من الزواج حتى قبل انتخاب الزوجة، وهكذا رزقه الله سبحانه ذلك البطل الوفي المواسي لأخيه، والناصح لإمام زمانه”. (العباس بن علي السيد المدرسي؛ ص20).
* فاطمة بنت حزام الكلابية
فأمير المؤمنين، عليه السلام وهو العالم ليس بالأنساب بل بما في الأصلاب، عندما يأتي إلى أخيه عقيل العالم بالأنساب ويطلب منه هذا الطلب ولهذه الغاية يُريد أن يشير لنا إلى مسألة في غاية الأهمية؛ هي مسألة استشارة ذوي العلم بالأنساب باختيار الزوجة، لأن العِرق دسَّاس، والخال أحد الضجيعين، وتخيَّروا لنطفكم، كما في الكثير من الروايات الشريفة في ذلك، وأمير المؤمنين، عليه السلام، كان بالغنى عن المشورة وكان ممكن أن يطلب من أخيه أن يذهب ويخطبها له، ولكن هل كان سيصلنا هذا الدرس التربوي الرائع لنقتدي بالأمير عندما نُريد أن نختار زوجاتنا، والكثير في هذا العصر ـ للأسف الشديد ـ يُحاول أن لا يستشير حتى والديه في هذه المسألة الحساسة جداً ظناً منه أنهما لا يُجيدان الاختيار له لأنهما من الجيل الماضي.
ولكن هذه الفتاة الطيبة التي ولدتها الفحولة من العرب التي اختارها عقيل العارف بالأنساب هل كانت بالمستوى الذي جعل عقيل يخطبها ويختارها لأخيه أمير المؤمنين، عليه السلام كزوجة، ولتحقيق الغاية التي كان الزاج منها (تلد غلاماً يكون سنداً لأخيه)، فكيف كانت تلك الفتاة المدللة؟
سماحة السيد المرجع يقول فيها: “أما فاطمة الكلابية فقد كانت مثلاً رائعاً في المثل الأخلاقية، فعندما دخل بها الإمام علي، عليه السلام سألها حاجتها، حسب عادة الزيجات يومئذ، طلبت حاجة وحيده – حسب رواية تاريخية-: بألا يُناديها باسمها فاطمة!
لماذا وقد سمَّتك أمك فاطمة؟! قالت: بلى؛ أخشى أنه كلما تناديني بهذا الاسم (فاطمة) أن يتذكر أولاد فاطمة الزهراء، عليها السلام، أمهم فتتجدد أحزانهم؛ فكنَّاها الإمام “بأم البنين“.
هذا يُخبرك عن مخبر راقي جداً في الطهارة والإيمان والخُلق الرَّضي التي تربَّت عليه هذه الفتاة في بيت أهلها، وكم كانت تحمل من قيم الإيمان بالولاية العلوية، والمحبة النقيَّة للبضعة النبوية فاطمة الزهراء الزكية، التي رأت أن تُضحّي باسمها حفظاً على شعور أبناء الزهراء، عليه السلام.
حركات عباد الله الربانيين تتجه إلى قبلة واحدة، هي رضوان الرَّب، وهكذا تجدهم إذا تزوجوا أو ابتغوا ذرية فلغاية ربانية، وكان الهدف الأسمى للإمام علي، عليه السلام، من زواجه من فاطمة بنت حزام الكلابية أن يرزقه الله منها ولداً ينصر نجله الحسين، عليه السلام
-
مدرسة أم البنين التربوية
من هذا المنطلق الذي يجب أن نقف عليه طويلاً – رغم قلَّة المعلومات عنه – وذلك بالظلم التاريخي لهذا البيت الطاهر، ولهذه السيدة الجليلة التي اقترنت منذ ذلك اليوم بالبيت الإلهي الذي أذن الله له أن يُرفع ويُذكر فيه اسمه في آناء الليل وأطراف النهار، فانصهرت روحها وعقلها وقلبها الكبير في سيد ذاك البيت فحل الرجال وأمين الأمة على دينها، وأمير المؤمنين، عليه السلام، فكانت نعم المرأة الصالحة والعون على طاعة الله وعبادته.
وأما عن مدرستها التربوية فإن بعض نتف الروايات عن طريقتها وأسلوبها في تربية أولادها الأبطال الأربعة لا سيما كبيرهم الذي كان آية من آيات الفضل والجمال، قمر العشيرة أبو الفضل العباس الذي كان ومازال وسيبقى باب الحوائج إلى الله لأنه وقف نفسه وحياته في باب أخيه وإمامه الحسين، عليه السلام، وهذا ما يُخبرك عن تلك المدرسة الراقية التي تربَّى فيها ألا وهي حجر أمه الطاهرة أم البنين.
فالتاريخ يُحدِّثنا ويُخبرنا أن هذه المرأة رُزقت بأربعة أشبال كانوا كنجوم السماء في بني هاشم الأكارم وأبو الفضل العباس قمرهم، الذي كان يلبس خماراً إذا خرج في بعض الحروب حتى لا يُصاب بالعين، كما في بعض روايات صفين، حيث أثار العجب في الصَفَّين العراقي والشامي.
فكيف كانت تربية هذه المرأة لهؤلاء الأبطال الذين يُقدمون على الموت بصدر رحب جميعاً ولا ينبث أحدهم ببنت شفة بل يرتجز ويفتخر بأنه يُدافع عن دينه وإمامه، وما كانوا ليقدموا على ذلك لولا رضعوا هذه العقيدة من ثدي الصدق والحق والإيمان في صدر أمهم وحجرها الطاهر، وهذا ما أخبرتنا عنه الروايات التاريخية العجيبة التي تحكي عن استقبالها لناعي كربلاء بشر بن حذلم الذي أمره الإمام السجاد، عليه السلام، بالدخول إلى المدينة ونعي الإمام الحسين، ولما سمعته أم البنين خرجت وطفل للعباس على كتفها فلم تسأله إلا عن ولدها الحسين، عليه السلام، ولما أخبرها بشهادتهم واحداً بعد واحد وهي تقول له: ما سألتك عن أولادي سألتك عن الحسين.
حتى أخبرها بشهادة العباس فانحنت وسقط الولد عن كتفها وقال: “لقد قطعت نياط قلبي أخبرني عن ولدي الحسين، ولما أخبرها بشهادته صاحت: وا ولداه واحسيناه..”
ومما ذكره بعض المؤرخين: إن أم البنين رأت أمير المؤمنين، عليه السلام، في بعض الأيام قد أجلس أبا الفضل، عليه السلام، في حجره، وشمَّر عن ساعديه، وقبَّلها وبكى، فتعجبت وسألت زوجها الإمام عن سبب بكاءه؟ فأخبرها بإن هاتين اليدين سوف تقطعان في سبيل الحسين، عليه السلام، فبكت؛ ثم بشَّرها بمقام ولدها عند الله، وان الله سوف يُعوِّضه عن يديه جناحين يطير بهما في الجنة – كما فعل بعمه جعفر الطيار-، فاطمأنت نفسها”.
لم تعترض ولم تسأل زوجها لماذا يُقتل ولدي في سبيل ولد وفاطمة، وهي ضرتها، ولم تطلب من أمير المؤمنين، عليه السلام الحياة لولدها بل رضيت واطمأنت بشهادته وأن يكون كعمه جعفر يطير بجناحين في الجنة حيث يشاء، هذا هو التسليم لأمر الله، والرضا عن الله بقضائه وخيرته.
وعلى هذا كانت تُربي أولادها الأربعة، يقول سماحة السيد المرجع: “وقد ذكر البعض صوراً شتى لمدى تعلق العباس بالحسين، عليه السلام، وأنه منذ الطفولة كان سريع الاستجابة لطلبات أخيه فإذا أبدى الحسين، عليه السلام، العطش، انطلق العباس يُسرع إلى كأس ماء ويأتي به ويُقدمه إليه”، ولهذا اختارته السيدة زينب ليكون كفيلاً لها وخادماً لحضرتها في سفرها وحضرها.
والعجيب أن السيدة أم البنين ربَّت أولادها على قيم الرسالة الإيمانية، فكان أكبرهم العباس “في طول حياته لم يُخاطب أخاه بالأخوة.. لماذا؟ أوليس العباس ابن أمير المؤمنين وهو الشجاع البطل، فلماذا لا يُخاطب أخاه بكلمة يا أخي؟
إن العباس ليعلم أن الحسين ابن بنت رسول الله، ابن فاطمة وما أدراك ما فاطمة، وأنه حجة الله عليه وعلى العالمين، وأنه سبط الرسالة، وسيد شباب أهل الجنة.. فلذلك لم يكن يُخاطبه إلا باحترام بالغ؛ يقول مثلا يا ابن رسول الله، يا سيدي، يا مولاي”.
فهذه السيدة الطاهرة كانت مدرسة، بل جامعة تربوية، يجب أن ندرس فيها جميعاً، ونُحاول أن ننقلها كتراث إنساني إلى العالم أجمع لنعرِّفه بهذه المرأة القدوة والمثال في عالم المرأة المربية.