عندما يتسابق طلبة كلية الطب على المجهر لرؤية الفايروسات او الميكروبات وهي تتحرك، فانهم لا ينظرون اليها كعدو، وعامل فتك وموت الناس، ربما بالملايين كما يحصل اليوم على يد “كورونا”، وإنما ليبحثوا فيه مدى صلابته وديمومته، وقدرته على الانتشار والعدوى، فهو يعيش في أحدث المختبرات بالعالم، وأكثرها امكانيات علمية ومادية، في حالة تحدٍ قاسية قبل انكشاف أمر تكوينه، ثم التعرّف على طريقة القضاء عليه.
خرج الفايروس من هذه المختبرات بشكل غريب ومريب منذ اكثر من سنة، وهو يطوف بمنجله حول العالم يحصد بالارواح حتى بلغ عدد ضحاياه مليونين انسان الى جانب ملايين المصابين، وترك تأثيرات سلبية فادحة على مختلف قطاعات العمل والانتاج، والحياة العامة في القارات الخمس، ومن أبرز هذه القطاعات؛ قطاع التعليم الذي يعد ركيزة التقدم والتطور العلمي، وبوصلة التنمية الاقتصادية المستدامة في معظم دول العالم، لاسيما التي تمتلك ناصية الاقتصادي العالمي.
يمكن ان يكون الانترنت باباً واسعة لمزيد من تعزيز أواصر العلاقة الأخوية فيما بين الطلبة من جهة، وبين الطالبات من جهة اخرى لمزيد من التواصل والتعاون على فهم المادة والتعويض عن الشروح الفائتة، لاسيما بالنسبة للمواد العلمية الصعبة
يبدو ان تحدي هذا الفايروس (كوفيد19) له أوجه مشتركة بين طلاب العالم بحجرهم في بيوتهم واستبدالهم الاستاذ والمدرسة والجامعة بالانترنت، بيد أن تسليط الضوء على وضع طلبة الجامعة تحديداً في العراق يعطينا صورة تفوق في إثارتها التحدي العنيد لهذا الفايروس في العراق وفي العالم، نظراً للامكانات البسيطة والمتواضعة في مراكزنا العلمية والاكاديمية، فالطالب والطالبة في العراق ليسوا طلاباً فقط، وإنما ـ معظمهم- مجاهدون يكابدون المشاكل والعوز في امور مختلفة للوصول الى أعلى مراقي النجاح.
-
طلاب يحاربون الفايروس بلا سلاح!
العراق؛ البلد المأزوم سياسياً واقتصادياً وأمنياً منذ عام 2003، لاسباب كثير الحديث عنها، يلقي بظلاله الكثيفة على مستوى التعليم بشكل عام، بدءاً من المرحلة الابتدائية، وحتى الاعدادية وصولاً الى الجامعة، ثم الدراسات العليا، فيزيده تعقيداً وارباكاً يدفع الطالب، احياناً، والاستاذ احياناً اخرى الثمن لوحدهم، والذريعة الجديدة؛ استمرار وجود “كوفيد19″، و”اجراءات الوقاية والسلامة من أن يصاب الطلاب وحماية ارواحهم”!
طالبٌ يدفع المال في بعض الجامعات لتحقيق أمانيه المستقبلية، وآخر يدفع بالوقت (المحظوظين بالجامعات الحكومية المجانية) للحصول على المحاضرات قبل فوات الأوان، وبين هذا وذاك، الجميع يلتقون في محنة تدني الخدمات، وطريق الوصول، واحياناً طريقة التدريس، وحتى المستلزمات الضرورية في بعض القاعات.
ثمة مشكلة نفسية يعاني منها معظم الاساتذة عندما يحاضرون عبر تطبيقات المكالمات الجماعية مثل “زوم” او “ميتينغ” فهو يتحدث مع نفسه أولاً داخل بيته، ولا يعرف على وجه الدقّة عدد الطلبة المتفاعلين الجالسين في بيوتهم ايضا
بسبب الاجراءات الاحترازية في بعض الكليات يجري تجزئة اعداد الطلاب في المرحلة الواحدة الى عدة “قروبات” لتحقيق التباعد الاجتماعي، وهذا من شأنه تمديد فترة وجود الطلاب في الجامعة الى وقت أطول، وينعكس سلباً وبشكل مباشر على معظم الطلبة، لاسيما ممن يأتون من أماكن بعيدة على متن حافلات توصيل خاص، حتى أن بعض الطالبات تضطر للخروج من البيت في الساعة السادسة صباحاً، أي قبل شروق الشمس، وتعود الى البيت في الساعة الثالثة عصراً، الى جانب ضياع ساعات من وقت الطالب حتى يحين وقت محاضرته في مكان يخلو من استثمار الوقت مثل المكتبة، او أماكن جلوس مناسبة للطلبة والطالبات.
في الجانب الآخر ثمة مشكلة نفسية يعاني منها معظم الاساتذة عندما يحاضرون عبر تطبيقات المكالمات الجماعية مثل “زوم” او “ميتينغ” فهو يتحدث مع نفسه أولاً داخل بيته، ولا يعرف على وجه الدقّة عدد الطلبة المتفاعلين الجالسين في بيوتهم ايضاً، وفي أي حالة هم، مما يكشف عن الفارق الكبير بين هذا النمط من التدريس، وبين التدريس الحضوري كما السابق، حيث الشرح المسهب والتفاعل بين الاستاذ والطالب وجهاً لوجه.
العقدة النفسية المتفاقمة في العلاقة بين الاستاذ والطالب في ظل جائحة كورونا تلقي بظلالها على مستقبل التعليم الجامعي، وعلى مستقبل الطالب ايضاً، فتزايد الشدّ العصبي، وتراجع الثقة المتبادلة، وتنحية القيم الاخلاقية من التعامل البيني مثل؛ التسامح، والتواصي، والتكافل، كل ذلك يؤدي الى أن تتحول الجامعة الى ساحة حرب حقيقية غير متكافئة يقف فيها الطالب وحده أمام تحدٍ شرس بعنوان: “كوفيد19″، ويفترض به أن يحقق النجاح ويتخرج طبيباً يعالج الناس، او مهندساً يشق الطرق ويصمم المباني ويشيد الجسور، او محامي يدافع عن حقوق الناس.
-
القضاء على الفايروس بالقضاء على اليأس
معروفٌ لدى الناجحين أن التحدي ومواجهة الصعاب والعقبات هو الذي يفتح لهم آفاق المستقبل، وهذا ما جربه المكتشفون للنظريات العلمية في الطب والفلك والذرة والهندسة والكيمياء وغيرها، وما نعيشه اليوم من تطور في المجالات كافة لم يأت على طبق من ذهب بقدر ما هو حصيلة جهود وتضحيات جسام، وربما تكون هذه الجائحة والازمة الغريبة من نوعها في العالم، محل اختبار، ومن نوع جديد ايضاً، لكل الطامحين بالنجاح والحصول على مراتب علمية يفيدون بها انفسهم ومجتمعهم.
ثمة مجالات اختبار عديدة في هذا الجانب يمكن ان تخرّج لنا طلبة متألقين ليس علمياً فقط، وإنما اخلاقياً وثقافياً ايضاً، يتحدث عنهم الجيل القادم بأنهم كانوا يوماً في مختبر تحدي عظيم مع ظاهرة صحية غاية في الخطورة لكنهم تجاوزوها بسلاح الايمان والشجاعة، ومن هذه المجالات:
- يمكن ان يكون الانترنت باباً واسعة لمزيد من تعزيز أواصر العلاقة الأخوية فيما بين الطلبة من جهة، وبين الطالبات من جهة اخرى لمزيد من التواصل والتعاون على فهم المادة والتعويض عن الشروح الفائتة، لاسيما بالنسبة للمواد العلمية الصعبة.
- اختبار القدرة على تنمية الروح الرياضية للاساتذة في إيصال المادة الى الطالب في وقت قياسي خلال التواجد المحدود داخل الجامعة، وإعطاء المادة حقها قدر الإمكان.
- اختبار أمانة الطالب وصدقه وإخلاصه خلال وجوده في البيت طيلة سنة دراسية كاملة، وهي سابقة غير معهودة في تاريخ الدراسة الجامعية، مما يجعل هذه السنة أشبه بالاختبار المزدوج للجانب العلمي، والجانب الاخلاقي في آن.
انتشار خبر خروج العراق من التصنيف العالمي للجامعات الرصينة، يمثل صدمة لكل الطامحين لمراقي العلم في العراق، بعد أن كانت الشهادة الجامعية من بغداد او الموصل او البصرة علامة قوة وثقة بيد الطالب اذا ما اراد إكمال دراسته خارج البلاد، ونرجو أن لا يكون انتشار هذا الخبر ذو آثار سيئة مثل آثار انتشار فايروس كورونا على التعليم، وهذا يكون بتضافر الجهود داخل وخارج الجامعة بالتعويض عمّا فات، وترميم العلاقات البينية على قاعدة القيم والمبادئ التي طالما نفخر بها كعراقيين منذ القدم، وجلّ العلماء العراقيين ـ إن لم نقل جميعهم- إنما يتميزون عن أقرانهم في العالم، ليس فقط بغزارة علمهم و حدّة ذكائهم، بصفات وخصال اخلاقية ذات صلة وثيقة بالمهنة، مثل؛ الاخلاص، والصدق، والامانة، وحب الخير للآخرين، ولذا نجدهم الأكثر محبوبية في جميع المرافق العلمية والانتاجية بالعالم.