أسوة حسنة

ابْحَثْ عَنِ الجَّارِ قَبلَ الدَّار فاطمة مثالاً

  • مقدمة في الاجتماع

الدِّين الإسلامي جاء لصناعة الإنسان وتربيته فرداً وجماعةً، ويتطلع لصناعة الإنسان الصالح (التقي)، والمجتمع الصالح (النقي)، وبذلك يبني مَدَنِية راقية، وينشئ حضارة قيمية زاهية بفضل هذه المنظومة القانونية (التشريع) التي تشمل الحياة كلها، بكل ما فيها من تنوع واختلاف بين الشعوب والمجتمعات، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}. (سورة الحجرات: 13)

هذا النداء الرباني بالناس جميعاً لبيان مهمتهم و واجبهم تجاه بعضهم البعض في هذه الدنيا، وما اختلاف الأشكال والألوان، إلا سُنة من سنن الله في الخلق، ولكن أصل الوجود للتعارف لا للتخالف، ولتعارفوا لا لتعاركوا، لأن الأصل واحد، والدَّعوة تشمل الجميع وهذا ما يميِّز هذا الدِّين الإسلامي العظيم في تشريعه حيث قال ربنا سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إذا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}، (سورة الأنفال: 24)، أي استجيبوا لما يُعطيكم ويهبكم الحياة.

والحياة هي القوة الكامنة في الشيء، والتي تُعطيه القدرة على اكتساب الأشياء الأخرى وإذابتها في بوتقة واحدة وفي اتجاه معين، فالبذرة الحيَّة تختلف عن البذرة الميتة، والنطفة الحيّة تختلف عن النطفة الميتة، والمجتمع الحي مختلف تماماً عن المجتمع الميّت، ولكن ما معنى المجتمع الحيّ، وبماذا يختلف عن المجتمع الميّت؟ بل معنى الحياة في المجتمع البشري؟

يقول سماحة السيد المرجع المدرسي -حفظه الله-: “إن المجتمع الحيّ هو تماماً كالبذرة الحية، فهو يملك القدرة على أن يمتص من حوله الإمكانات المادية والبشرية ويذوِّبها كلها في بوتقة واحدة، ويُعطيها التفاعل ويُوجهها من أجل بناء الحضارة الإنسانية التي تسير أبداً في اتجاه النمو والتكامل، بينما المجتمع الميِّت فهو كالبذرة الميِّتة، يفتقد خاصيَّة الامتصاص والتفاعل والنمو، وبالتالي سرعان ما يتفسخ ويتفتت ومن ثم يتلاشى”. (المجتمع الإسلامي: ص5 بتصرف).

 

كانت الصديقة الزهراء، المرأة الواعية لدينها و رسالة أبيها رسول الله، صلى الله عليه وآله، حتى غدت: “فاطمة أم أبيها”، في مجتمع لا يعرف معنى لهذا الكلام

 

  • فاعلية المجتمع الإسلامي

الباحث في التاريخ والمجتمع الإسلامي يُدرك أن سبب فاعلية المجتمع نبعت من الرسالة الإسلامية نفسها، ومن تطبيق القواعد القرآنية في ذاك المجتمع الذي كانوا يصفونه بالجاهلية، فحرَّك نفس المجتمع ولكن بأدوات حضارية أخرى، حيَّة تبني الفرد المتقي، وتُنشئ الأسرة الفاضلة، وتوجد المجتمع الصالح الذي يتحرك من جموده وينهض ليبني حضارته بسواعده، وهمَّة رجاله ونسائه، كلٌ حسب دوره ونشاطه يؤدي رسالته في هذه الحياة.

يقول سماحة السيد المرجع: “إن مجتمع رسول الله، صلى الله عليه وآله، لم يكن عدد أفراده في مكة المكرمة قبل الهجرة النبوية يزيد عن مائتي إنسان مستضعف، ولكنه بعد أقل من ربع قرن، استطاع أن يُحوّل المجتمعات الكثيرة المتواجدة في الجزيرة العربية، إلى مجتمع مسلم واحد، ويذوِّبها في هدفه، وإذا نظرت إلى خريطة العالم، لوجدت أن المسلمين، وبعد قرن ونيّف من البعثة النبوية، طرقوا غربا أبواب أوروبا عن طريق شمال إفريقيا، وعبروا شرقا نهر السين، واقتحموا الشرق الأقصى في آسيا، وقد استطاعوا أن يذوّبوا كل المجتمعات والحضارات التي كانت موجودة في هذه البقعة الشاسعة من الأرض، ويصبغوها بالصبغة الإسلامية، ويخلقوا منها الأمة الإسلامية الكبيرة، هذا هو المجتمع الحي”.

ولكن كيف وبماذا تحرَّك ذاك المجتمع الجاهلي المتخلف؟

إنها القيم الإيمانية التي جاء بها القرآن الحكيم، ورسَّخها فيهم رسوله الكريم، صلى الله عليه وأله، ومن أعظم وأعلى تلك القيم الاجتماعية قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}، فكانت سُنَّةُ المؤاخاة بين المسلمين مرتين؛ في مكة المكرمة قبل الهجرة، ثم في المدينة المنورة بعدها، حيث آخا رسول الله، صلى الله عليه وآله، بين المهاجرين والأنصار فكانت القاعدة الراسخة التي بُني عليها المجتمع الإسلامي، وبها صار الجميع سواسية كأسنان المشط، ولا فضل بينهم إلا بالتقوى والعمل الصالح.

 

  • فاطمة الزهراء  (ع) أسوة

وفي ذلك المجتمع الحيّ الذي أنجب للحياة شرفها وفخرها وكرامتها، والمرأة هي نصف المجتمع في كل زمان، ولا بد للمجتمع الناهض والمتطلع إلى بناء الحضارة الراقية من أن يُشرك هذا النصف الفاعل بالبناء، وذلك لأن النساء حصن الاستقامة في الأسر والمجتمعات، ولقد ضربت السيدة خديجة الكبرى سيدة قريش الطاهرة أكبر الأمثلة بمقاومة كل ظروف الانحراف في مكة المكرمة رغم أنها كانت في بؤرة من الفساد في كل شيء، إلا من بعض القيم العربية الأصيلة فيه فصمدت في مجتمع يحكم على البنت بالموت حيَّة، و وأدها ودسها في التراب، هرباً مما يعدونه “عاراً عليهم”!

وفي السنة الخامسة من البعثة الشريفة ولدت في ذلك المجتمع الناشئ بنت لرسول الله، صلى الله عليه وآله، سماها البارئ من فوق سماواته السبع؛ فاطمة، وجعلها زهراء تُزهر الدنيا بفيض نورها وفضلها وشرفها وكرامتها وسؤددها، لأنها كانت مميَّزة في كل شيء أصلاً وفصلاً، فنطفتها جاءت من الجنة، بتحفة وتحيَّة من الرَّب سبحانه وتعالى لأبيها رسول الله، وأمِّها السيدة خديجة، فكانت سلوتها وأنسها وهي في بطن أمها.

ولدت وترعرعت على القيم الحضارية ورأت بأم عينها تلك القيم الجاهلية في ذاك المجتمع الميِّت بما كانوا يتصرفون مع أبيها رسول الله، صلى الله عليه وآله، من الظلم والأذى، والسُّباب، وبكل ما لديهم من قيم التخلف والجهل، وتُعاني مع أمها السيدة خديجة، و انفردت بكل ذلك بعدها فكانت المرأة الواعية لدينها و رسالة أبيها رسول الله، صلى الله عليه وآله، حتى غدت: “فاطمة أم أبيها“، في مجتمع لا يعرف معنى لهذا الكلام.

ففاطمة البنت الوحيدة والتي كان ذاك المجتمع لا يرغب في أمثالها في الحياة، صارت مثالاً وقدوة للنساء والرجال على حدٍّ سواء، وليس لأنها بضعة النبي الأكرم، وبهجته وقلبه وروحه التي بين جنبيه فقط، بل هي بنفسها وعنصرها الشريف، ومقامها المنيف، بحيث أنها صارت كفؤاً وقرينة لابن عمِّها، بطل الإسلام الخالد، و أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب، عليه السلام، وأمَّاً لسبطا هذه الأمة وسيدا شباب أهل الجنة، بحيث يقول ولدها الإمام الحسين: “أمي خير منِّي“، و ولده الإمام الحسن العسكري، عليه السلام، يُعطيها مقام الحُجية على حجج الله على العالمين في قوله: “وأمنا فاطمة حجة الله علينا“، فهي كانت إضافة راقية للقيم الاجتماعية الناهضة في حينها.

 

المطلوب حُسن الجوار، ولكن سيدة النساء كانت تعلمنا ما هو أكبر من ذلك بحيث تقوم في جوف الليل البهيم وتُصلي لله، وتدعو لجيرانها وتُسمِّيهم، ولا تدعو لنفسها

 

  • مفهوم فاطمي جديد

ومن المفاهيم الكثيرة التي أضافتها سيدة النساء إلى المنظومة القيمية الإسلامية من قبيل مفهوم الحجاب، ومفهوم العفة، ومفهوم الحياء، ومفهوم العطاء، كان لها مفهوم خاص بالدار والسكن فيه وكيفية اختياره، ومما أثار تساؤل ولدها الإمام الحسن السبط، عليهما السلام، وخلاصته في الرواية التي يقول فيها، عليه السلام: “رأيتُ أمي فاطمة، عليها السلام، قامت في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتضح عمود الصبح وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات، وتُسمِّيهم وتُكثر الدُّعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلتُ لها: يا أماه لمَ لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بني! الجار ثم الدار“.

وفي رواية أخرى عن ولدها المظلوم الإمام موسى بن جعفر، عن آبائه، عليهم السلام، قال: “كانت فاطمة إذا دعت تدعو للمؤمنين والمؤمنات ولا تدعو لنفسها، فقيل لها: يا بنت رسول الله إنك تدعين للناس ولا تدعين لنفسك، فقالت: الجار ثم الدار“، ويقول الامام الكاظم، عليه السلام: “ليس حُسن الجوار كفّ الأذى، ولكن حسن الجوار الصبر على الأذى“.

هذا المفهوم الاجتماعي الراقي الذي يجعل الإنسان يقف حائراً في نفسه فعلاً، فعن أي جار، وأي دار كانت تتحدَّث سيدة النساء؟ هل تقصد أهل الدنيا أم تقصد أهل الآخرة؟

فالجار في المفهوم الإسلامي حميم وكريم لا سيما إذا كان ينطبق عليه الأخوة الإيمانية التي بُني عليها المجتمع الإسلامي كما قدمنا، و ربما لا ينطبق عليه ذلك ويبقى في دائرة النظير في الخلق، فيبقى له حُرمته بحرمة الجار بكل معانيه في الشريعة الإسلامية، من ذوي القربى أو الصاحب بالجنب، فعلى الإنسان احترام جاره وتقديره، ولقد اهتمّ الإسلام كثيراً بالجار وحقوقه، حتّى أنّ النبيّ، صلى الله عليه وآله، يقول: (وما زال جبرائيل يوصيني بالجار حتّى ظننتُ أنّه سيورّثه).

وقال، صلى الله عليه وآله: “إن استغاثك أغثه، وإن استقرضك أقرضه، وإن افتقر عُدت إليه، وإن أصابه خير هنّأته، وإن مرض عدت عليه، وإن أصابته مصيبة عزّيته، وإن مات تبعت جنازته، ولا تستطيل عليه بالبناء فتحجب عنه الرّيح إلّا بإذنه، وإذا اشتريت فاكهة فاهدها له).

والمطلوب حُسن الجوار، قال: صلى الله عليه وآله، “حُسن الجوار يعمّر الديار وينسئ في الأعمار“، و”حُسن الجوار يزيد في الرّزق“، ولكن سيدة النساء كانت تعلمنا ما هو أكبر من ذلك بحيث تقوم في جوف الليل البهيم وتُصلي لله حتى تتورم قدماها وينشق عمود الصبح عليها وهي تدعو لجيرانها وتُسمِّيهم، ولا تدعو لنفسها ولعيالها، وذلك لأن الجار أهم من الدار، فهل نحن كذلك في بيوتنا ومع جيراننا؟

ولنا أن نتسائل: هل قابل جيران الصديقة الزهراء، الإحسان بمثله أم بشيء آخر؟! وهل عرفوا عظمتها ومكانتها وحرمتها عند الله؟

ولهذا نحن نتمسَّك بفاطمة القدوة والأسوة، والشفيعة، وجميل ما قاله سماحة السيد هادي المدرسي -حفظه الله-، “لمَنْ قال له: ماذا تمثّل لكم فاطمة؟

قلتُ: باختصار؛ فاطمة ديننا ودنيانا، روحنا و راحتنا، أمننا وأمانينا، هي نبع إيماننا، وبركة حياتنا، وهي جنّتنا وفردوسنا، بها نتقرّب إلى الله، وبها نتوسّل إليه، وبها نطلب منه الخير كلّه، والسعادة كلّها، وغفران الذنوب جميعاً”.

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا