يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. (سورة البقرة 178/179).
-1-
الانسان مخلوق اجتماعي بالفطرة، خلقه الله تعالى كذلك، فهو لا يستطيع أن يعيش السعادة بمفرده، بل لا بد له مع العيش مع الآخرين، يستفيد منهم ويفيدهم، يعينهم ويأخذ العون منهم، هو مع الآخرين يبنون كياناً اجتماعياً متكافلاً متكاملاً.
-2-
ورسالات الله سبحانه، وبالذات رسالة الإسلام، تؤكد على بناء وتربية الانسان كعضو في الأمة (المجتمع) وليس كفرد منعزل عن الآخرين.
وفي شريعة الإسلام نلاحظ كثافة الشعائر والاحكام الاجتماعية بالقياس الى الطقوس والممارسات الفردية. وكنماذج أنظر الى: الصدقة (نموذج بارز للتكافل الاجتماعي مادياً) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (نموذج للمسؤولية الاجتماعية) صلاة الجماعة (الاجتماع في العبادة)، صلة الرحم (ترسيخ العلاقات الأسرية) الحج، التعاون على البر والتقوى، التأكيد على الشورى في المجتمع، وعشرات النماذج الأخرى.
العقوبات إذا أُريد لها أن تكون رادعة عن الجريمة، فلا بد أن تكون صارمة وعنيفة، فالحكم بالاعدام على القائل ليس امراً محبَّذاً، ولكنه ضروري لكي يرتدع عن ارتكاب جريمة القتل من تسوِّل له نفسه ذلك
-3-
ومن أهم مستلزمات المجتمع السليم: توفير الأمن والسلامة من جميع الجهات، فلا بد أن يُبنى المجتمع بصورة لا يحس الفرد فيها بالخوف والقلق والاضطراب، ومن أسباب ذلك مكافحة الجريمة في المجتمع، والقضاء على كل عوامل نشر الخوف بين الناس، بل لا بد من العمل على اشاعة الأمن والدعة والاستقرار.
لذلك كان من أهم مسؤوليات الحكم والادارة في الإسلام هو بناء نظام قضائي قوي وسليم يسهر على مكافحة الفساد، واقتلاع جذور الجريمة، وتوفير الأمن والسلامة الاجتماعية لكافة الناس، والآية الكريمة التي وردت في صدر المقال تأتي في سياق بيان مسؤوليات القضاء الإسلامي.
-4-
وربما اول سؤال يتبادر للذهن حين التدبر في هذه الآية الكريمة هو: لماذا القصاص كُتِب على الأمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ..} فليس كل الذين آمنوا يواجهون مشكلة القتل (سواء كقاتل او مقتول) فلماذا الخطاب موجَّه لجميع المؤمنين، أي لكل الأمة؟ لماذا لم يقل ـ مثلا ـ يا أيها الذين قتلتم.. يا أيها القتلة.. وما شاكل؟
قد يكون السبب هو أنَّ تطبيق أحكام القضاء، ومسائدة السلطة القضائية في مكافحة الفساد واقتلاع جذور الجريمة، هي مسؤولية الجميع، فلا يحق لأحد ان يعترض على أحكام القضاء العادل النزية، هذه الأحكام التي قد تكون صارمة في بعض الموارد (كالقصاص الذي يعني في ابرز مصاديقه – قتل القاتل) ولكنها تصب في نهاية المطاف في مصلحة المجتمع ككل وتوفير الأمن له. والأمن هو مِنْ أهم أركان السعادة والاستقرار في الأمة. بل حينما يكون القضاء عادلاً ونزيهاً ويستند الى أحكام الشرع الحنيف، لا بد أن يقف (الذين آمنوا) الى جانبه، مساندين له ومعزِّزين موقفه.
لولم يكن القصاص عقوبة القتل العمد لانتشرت جريمة القتل بشكل رهيب في المجتمع، ولذلك يخاطبنا الرب الحكيم العليم: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} فالعقلاء {أُولِي الْأَلْبَابِ} يعون جيداً حكمة العقاب الصارم ويرون فيه حياة المجتمع
-5-
والعقوبات إذا أُريد لها أن تكون رادعة عن الجريمة، فلا بد أن تكون صارمة وعنيفة، فالحكم بالاعدام على القائل ليس امراً محبَّذاً، ولكنه ضروري لكي يرتدع عن ارتكاب جريمة القتل من تسوِّل له نفسه ذلك.
وقد يقول قائل: لماذا نقضي على حياة شخص آخر بعد قتل المقتول؟ أليست حياته محترمة أيضاً؟ صحيح أنه اقترف خطيئة كبيرة، ولكن لماذا يرتكب القضاء، خطيئة أخرى بقتل القاتل؟ لقد قُتل شخصٌ واحد في جريمة اعتداء فلماذا نحن نقتل شخصا آخر؟ اتركوه في السجن الى الأبد، فلأنه سلب حياة أحد الأشخاص، اسلبوا حريته مادام حياً.
في الجواب نقول: ربما كان هذا الكلام صحيحاً من بعض الجهات، ولكننا حين نعرف أنَّ النظرة الإسلامية هي الى المجتمع (ككيان متراص متكامل) وليس للانسان كفرد، وأنَّ حياة المجتمع عند الدين أهم من حياة فرد مجرم لا يحترم حق الآخرين في الحياة، نعرف الحكمة وراء العقوبة الصارمة التي يُراد لها الردع عن هذه الجريمة البشعة على مستوى المجتمع كله، فلو لم يكن القصاص عقوبة القتل العمد لانتشرت جريمة القتل بشكل رهيب في المجتمع، ولذلك يخاطبنا الرب الحكيم العليم: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} فالعقلاء {أُولِي الْأَلْبَابِ} يعون جيداً حكمة العقاب الصارم ويرون فيه حياة المجتمع.
-6-
ولكن رغم أن عقوبة الاعتداء العمدي على حياة أو اعضاء الانسان هي القصاص، يعني: المعاقبة بالمثل، فإن الشرع المقدس يضع لمسة إحساس انساني وعاطفة كريمة الى جانب العقوبة العنيفة، فالقصاص حكم شرعي ولكنه ليس اجبارياً، بل يعود البتّ بشأنه الى المجني عليه (إن كانت الجناية على الاعضاء) أو الولي (إن كانت الجناية على النفس) فهناك خيار آخر اتاحه الشرع كبديل عن العقاب الصارم، وهو (العفو): {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ}.
والغريب في العبارة ورود كلمة (أخيه) بينما القضية بين جانٍ ومجنيٍّ عليه، مما يعني أنَّ وقوع جريمة اعتداء على عضو من أعضاء الشخص أو حتى على نفسه بالقتل لا يعني سقوط الأخوة الايمانية بين الطرفين، فالاخوة هذه هي الاساس، ووقوع الجريمة امر شاذ في المجتمع ينبغي القضاء على آثاره السلبية في المجتمع بالعدل والاحسان.
فاذا اختار المجني عليه أو وليّه العفو، فهو اصبح أخاً للجاني، وبالمقابل على الجاني أن يرد على هذا الموقف الاخلاقي بالمعروف (الدية) على اساس الإحسان، فالعفو عن القصاص إحسان، فيجب ان يكون الرد بالاحسان ايضاً.
-7-
إذن، العفو – بدلاً عن القصاص – هو: هل في القتل حياة؟ حيث لم يجعل الله القصاص اجبارياً والخيار الوحيد، بل من رحمته تعالى خفَّف عن المجتمع أعباء القصاص فأتاح لهم خيار العفو لمن شاء.
ولكن اذا عاد الجاني الى الجريمة مرة أخرى، وأساء فهم معنى العفو عنه، فإنَّ عقوبته تكون صارمة هذه المرة: {فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.