-
مقدمة فكرية
كنتُ أقرأ كتاباً لرئيس وكبير المفاوضين الفلسطينيين، المفاوض العريق؛ صائب عريقات، الذي انتشر أخيراً ويتناول فيه مسألة التفاوض، حيث ُ أرسله لي أحد الأحباب فجذبني عنوانه؛ (عناصر التفاوض بين علي وروجر فشر)، حيث يشرح كيف أنه قضى عمره يبحث في طُرق التفاوض مع الآخرين لا سيما الأعداء الصهاينة، ولما رجع إلى تاريخنا الإسلامي العظيم فوجد أن أمير المؤمنين الإمام علي، عليه السلام تفوَّق على كل علماء التفاوض، علماً وعملاً منذ قرون مضت ولكن هذه الأمة تركت الرؤوس واتبعت الذُّنابي منذ أن تسلطت رجال قريش على مقدرات الأمة الإسلامية.
وقد استوقفني كلمة جميلة ورائعة، لأنها حقيقة ضائعة في أمة تائهة عن عظيمها وحكيمها وأميرها، حيث يقول فيها: “دائماً ستكون الحاجة إلى المزيد حول سيدنا علي رضي الله عنه، فلو كتبنا كتاباً كل دقيقة، من ساعات أيام وأشهر وسنين الزمن لما أوفينا إمامنا وسيدنا وأميرنا علياً رضي الله عنه”. (عناصر التفاوض: ص17).
نعم؛ لو تأملنا في مقولة هذا الرجل المنتمي إلى مدرسة الخلفاء، وتُعارض مدرسة الولاية، ولكنه من خلال مطالعاته وقراءاته ومتابعاته لسيرة ومسيرة وبعض أقوال الإمام علي، عليه السلام في هذا القرن وهذا العصر وبعد قرون مضت على ذاك العَلَم الشَّامخ يقول: “فلو كتبنا كتاباً كل دقيقة.. لما أوفينا إمامنا وسيدنا وأميرنا”، والسؤال الذي خطر في بالي هنا: ماذا لو كتبنا ـ نحن الشيعة ـ كل شهر كتاباً عن الإمام علي، عليه السلام وطبعناه ونشرناه في الأمة بآلاف النسخ وليس بالعشرات؟
ثم ماذا لو كتبنا ونشرنا كل أسبوع كتاباً عن أمير المؤمنين فهل كان حالنا كما نرى اليوم؟
ثما ماذا لو قمنا بحملة مليونية للكتابة عن الإمام علي، وكل حسب رُؤيته وجهده وعلمه وطاقته ثم تعاونَّا جميعاً على طباعتها ونشرها في كل الأمة الإسلامية، ودعونا أصحاب اللغات الأخرى أن يترجموا هذه الكُتب كل في لغته فما كان حال العالم الآن؟
-
عظمة الإمام علي
وأعتقد جازماً، أن سر عظمة أمير المؤمنين الإمام علي، عليه السلام، هي ذاتها سرُّ عظمة سيده رسول الله، صلى الله عليه وآله؛ ألا وهي عظمة أخلاقه التي قال الله عنها: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}. (القلم: 4).
فهذه العظمة ليست لرسول الله ،صلى الله عليه وآله، بل تشمل صنوه أمير المؤمنين لأن الله تعالى جعله نفس رسول الله، صلى الله عليه وآله، في آية المباهلة حيث قال: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}، ولذا عدَّها ولده الرِّضا من آل محمد أنها أعظم فضيلة كانت لجده أمير المؤمنين ، حيث قال له المأمون يوماً: أخبرني بأكبر فضيلة لأمير المؤمنين يدلُّ عليها القرآن.
فقال له الرضا، عليه السلام : فضيلته في المباهلة {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}، فدعا رسول الله، صلى الله عليه وآله، الحسن والحسين ، فكانا ابنيه، ودعا فاطمة ، فكانت في هذا الموضع نساءه، ودعا أمير المؤمنين ، فكان نفسه بحكم الله عزّ وجل، وقد ثبت أنّه ليس أحد من خلق الله سبحانه أجلُّ من رسول الله ،صلى الله عليه وآله، وأفضلُ، فوجب ألا يكون أحد أفضل من نفس رسول الله ،صلى الله عليه وآله، بحكم الله عزّ وجل). (بحار الأنوار: ج 35 ص257).
فعظمة علي هي من عظمة رسول الله ،صلى الله عليه وآله،، وعظمتهما من عظمة ذي العظمة والجلال رب العباد وخالقهم الله سبحانه وتعالى، ولذا خلقهما من نور عظمته واشتقَّ لهم أسماءً من أسمائه الحسنى، فعن الإمام المظلوم موسى بن جعفر، عليهما السلام قال: “إن الله تبارك وتعالى خلق نور محمد من اختراعه، من نور عظمته وجلاله، وهو نور لا هوتيته الذي تبدَّى (ظهر) وتجلى لموسى، عليه السلام، في طور سيناء، فما استقر له ولا أطاق موسى لرؤيته، ولا ثبت له حتى خر صعقا مغشيا عليه، وكان ذلك النور نور محمد صلى الله عليه واله فلما أراد أن يخلق محمدا منه قسم ذلك النور شطرين: فخلق من الشطر الأول محمداً، ومن الشطر الآخر علي بن أبي طالب، ولم يخلق من ذلك النور غيرهما، خلقهما بيده ونفخ فيهما بنفسه لنفسه، وصوَّرهما على صورتهما وجعلهما أُمناء له، وشُهداء على خلقه، وخُلفاء على خليقته، وعيناً له عليهم، ولساناً له إليهم، قد استودع فيهما علمه، وعلَّمهما البيان، واستطلعهما على غيبه، وبهما فتح بدء الخلائق، وبهما يختم الملك والمقادير”. (بحار الأنوار: ج 35 ص28).
إن سر عظمة أمير المؤمنين الإمام علي، عليه السلام، هي ذاتها سرُّ عظمة سيده رسول الله، صلى الله عليه وآله؛ ألا وهي عظمة أخلاقه التي قال الله عنها: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}
وفي حديث شريف وعالي منيف عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر، عليه السلام، قال: قال: “يا جابر كان الله ولا شيء غيره، ولا معلوم، ولا مجهول، فأول ما ابتدأ من خلق خلقه أن خلق محمداً، وخلقنا أهل البيت معه من نور عظمته فأوقفنا أظلَّة خضراء بين يديه حيث لا سماء، ولا أرض، ولا مكان، ولا ليل، ولا نهار، ولا شمس، ولا قمر، يُفصل نورنا من نور ربنا كشعاع الشمس من الشمس نسبِّح الله، ونقدِّسه، ونحمده، ونعبده حقَّ عبادته، ثم بدا لله أن يخلق المكان فخلقه وكتب على المكان: لا إله إلا الله محمد رسول الله علي أمير المؤمنين ووصيه به أيَّدته ونصرته. (بحار الأنوار: ج 54 ص169).
فمَنْ يعرف هذا، ومَنْ يستطيع أن يصل إلى كُنهه بفكره، أو خياله أو وهمه؟ حاشا وكلا إن الأفكار خسئت، والعقول تحيَّرت، والأفهام قَصُرت من أن تنال تلك القمَّة السَّامقة، والقُلَّة الشَّاهقة في دنيا الإنسانية، أ ليس قال في خطبته الشقشقيقية: “أَمَا وَالله لَقَدْ تَقَمَّصَها (ابن أبى قحافة)، وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّيَ مِنهَا مَحَلُّ القُطْبِ مِنَ الرَّحَا، يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ، وَلا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ”، نعم؛ هو قطب رحا الوجود والإمكان، الذي ينحدر عنه الخير ولا يرقى إليه الفكر، ذاك هو أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب.
إذا كان أميرنا وسيدنا ومولانا بهذا المقام السامق، ونحن نخجل أن نذكر فضائله، أو أن نقرأ عن سيرته وسُنَّته المباركة، فمتى نُوَّفيه حقَّه، أو أن نُعطيه حقَّه الذي فرضه الله لها بالمعرفة والطاعة له ولأبنائه أئمة المسلمين وسادة الخلق أجمعين؟
-
هل وفَّينا حقَّه علينا؟
هذا هو السؤال الذي طرحته على نفسي دائماً وأبداً وكلما قرأتُ كتاباً، أو بحثاً، أو مقالاً جديداً عن أمير المؤمنين، عليه السلام، رغم أنني كتبتُ إلى الآن خمسة مجلدات، وربما العشرات من المقالات، وتكلمتُ في الكثير من البرامج التلفزيونية عنه ـ روحي فداه ـ والآن نعدُّ لبرنامج طويل الأمد بحيث يستغرق حياته كلها بالبحث والدرس بالتفصيل والتحليل، وأشعر بأننا مقصِّرون تجاه ذاك العَلم الشامخ، والشَّرف الباذخ، والسَّناء اللامع، والنور السَّاطع في سماء الإنسانية.
فكيف نُحصي فضائله ورسول الله، صلى اللّه عليه وآله قال عنها: “إنّ اللَّه جعل لأخي عليّ فضائل لا تحصى كثيرة”، وليس ذلك فقط بل قال، صلى اللّه عليه وآله: “لو أنّ الغِياض أقلام، والبحر مداد، والجنّ حسّاب، والإنس كتّاب، ما أحصوا فضائل عليّ بن أبي طالب”.
ويوم انتصر على الأحزاب، قال له، صلى الله عليه وآله،: “ضربة عليٍّ يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين”، فهل من أحد من أولئك الذين يدَّعون لهم الفضائل يخرجون من الثقلين حتى لا يشملهم قوله ،صلى الله عليه وآله،، ومَنْ من قريش وحكامها الذين صدَّعوا رؤوس العباد بهم يخرج من هذا الإطلاق النبوي الشريف الذي يضعهم في أماكنهم الذين هم فيه جاهلية وإسلاماً؟
وقال له، صلى الله عليه وآله، يوم فتح خيبر: “لولا أن تقول فيك طوائفُ من اُمّتي ما قالت النصارى للمسيح عيسى بن مريم، لقلتُ فيك اليوم قولاً لا تمرّ بملأ إلّا أخذوا التراب من تحت رجليك ومن فضل طهورك يستشفُون به! ولكن حسبك أن تكون منّي وأنا منك، ترثني وأرثك، وأنّك منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي، وأنّك تبرئ ذمّتي، وتقاتل على سنّتي، وأنّك غداً على الحوض خليفتي، وأنّك أوّل مَنْ يَرد عليَّ الحوض، وأنّك أوّل مَنْ يُكسى معي، وأنّك أوّل داخلٍ الجنّة من اُمّتي، وأنّ شيعتك على منابر من نور مبيضّة وجوههم حولي، أشفع لهم، يكونون غداً في الجنّة جيراني، وأنّ حربك حربي وسلمك سلمي، وأنّ سرّك سرّي وعلانيتك علانيتي، وأنّ سريرة صدرك كسَريرتي، وأنّ ولدك ولدي، وأنّك تُنجز عِداتي، وأنّ الحقّ معك، وأنّ الحقّ على لسانك وقلبك وبين عينيك، الإيمان مخالط لحمك ودمك كما خالط لحمي ودمي، وأنّه لن يَردَ عليَّ الحوض مبغض لك، ولن يغيب عنه محبّ لك حتى يرد الحوض معك”.
إذا كان أميرنا وسيدنا ومولانا بهذا المقام السامق، ونحن نخجل أن نذكر فضائله، أو أن نقرأ عن سيرته وسُنَّته المباركة، فمتى نُوَّفيه حقَّه، أو أن نُعطيه حقَّه الذي فرضه الله لها بالمعرفة والطاعة له ولأبنائه أئمة المسلمين وسادة الخلق أجمعين؟
وبما أننا لا نستطيع أن نوَّفيه حقَّه علينا فلا أقل من أن نُعرِّف العالم به، ونُطلعهم على فكره، وسيرته، وعطائه في كل الحقول المعرفية فإننا بذلك نُعطي البشرية والحياة حقَّها بمعرفة سيدها ومولاها وصاحب النِّعمة الكبرى عليها، وبذلك نكون قد أعطينا أنفسنا والحياة حقَّ الحياة بشرف وكرامة، وعزَّة وإباء، وتلك هي رسالة الأنبياء والأوصياء من رب السماء.