بحثت في محرك “قوقل” لأجد تاريخ نشوء هذه الجملة، وما اذا كانت من الامثال والحكم المأثورة، البعض يقول أنها تعبير عن فكرة “الثواب والعقاب”، أو الترغيب والترهيب، والقراءة الأخرى الأكثر قرباً للواقع أنه كناية عن سياسة التطويع بالتعبير المجازي عن دابّة (حمار) تسير و ترى أمام عينيها جزرة متدلية من عصا فهي تسعى لالتقامها دون جدوى لذا فهي تظن أنها بحركتها الى الامام ستتمكن من تلك الجزرة، ولكن هيهات، لأن صاحبها يريد لها استمرار الحركة حيث يشاء، ولذا فانها (العصا والجزرة) تُوسم دائماً للسياسات سيئة الصيت في بعض البلدان.
هذه السياسة عهدناها في بلادنا منذ أمد بعيد، فهي تقف بين الاوضاع التي يعيشها الناس، والتحالفات السياسية، والصفقات التجارية، والدسائس المخابراتية، وايضاً الحروب عبر الحدود، والنزاعات المسلحة داخل الحدود، والتي يُعد لها مسبقاً وتنفجر على حين غفلة من النس.
أهم وأبعد هدف يريده اصحاب هذه السياسة؛ إبعاد المجتمع، بكل مكوناته، ومؤسساته، ورموزه عن التأثير على تلكم التحركات، لأنه ببساطة سيكون عليهم الاجابة على التساؤلات حول مشروعية وجدوائية ما يفعلون، مما يعكّر عليهم صفو التنفيذ السريع وجني الارباح.
لم يكد العراقيون يصدقون واقعهم الجديد بعد هروب صدام من قصره الجمهوري، ليتنفسوا الصعداء، حتى ظهر لهم، – وعلى حين غرّة- مصدر خطر جديد لم يعهدوه من قبل، ليشدّ انتباههم وينسيهم كل شيء في الحياة، حتى الطعام والشراب والمنام لان عنوانه “الارهاب الطائفي” والموت بالاحزمة الناسفة او السيارات المفخخة في كل لحظة
الامثلة لا تُعد، وهي تواكب حياتنا اليومية طيلة عقود من الزمن، ويبدو أن حجم الحرص على تطبيق هذه السياسة مرتبط وثيقاً بحجم الاهمية البالغة لبلادنا في الموازين الاقتصادية والسياسية، وحتى الحضارية، مما يجعلها أمراً لابد منه، مهما كان الثمن، مع ذلك؛ عودة سريعة الى ما جرى في العراق في الايام الاولى من تسلم صدام للحكم في العراق، فحتى يشغل الشعب العراقي بما يثير مخاوفه وهواجسه، خلق له أعداء وهميين في الداخل (المعارضة)، وفي الخارج (ايران)، وحصل ما حصل من زجّ هذا الشعب في حرب طاحنة لم يجنِ منها سوى اكثر من مليون قتيل وعشرات الآلاف من المعوقين والايتام والارامل، وخسائر مادية لا تُحصى، فكان همّ كل فرد عراقي في تلك الفترة أن لا يوصم بـ”العمالة”، أو “الخيانة”، لذا كان عليه إطاعة ما يقوله صدام وحسب، والمثير للجدل؛ أن صدام هذا، وفي سني التسعينات، وبعد جملة من التحولات، اعترف بعظمة لسانه أن حرب الثمان سنوات التي فرضها على ايران كان “حرب إلهاء”، مدعياً أن اطراف اقليمية ودولية كانت ورائها!
ولم يكد العراقيون يصدقون واقعهم الجديد بعد هروب صدام من قصره الجمهوري، ليتنفسوا الصعداء، حتى ظهر لهم، – وعلى حين غرّة- مصدر خطر جديد لم يعهدوه من قبل، ليشدّ انتباههم وينسيهم كل شيء في الحياة، حتى الطعام والشراب والمنام لان عنوانه “الارهاب الطائفي” والموت بالاحزمة الناسفة او السيارات المفخخة في كل لحظة، وفي كل مكان.
الوجه الآخر للوضع آنذاك، ما يجب أن نتذكره بانفتاح العراق، ولأول مرة في تاريخه على العالم بشكل غير مسبوق، حيث المعلومات والتقنيات والثقافات بزوال حواجز السفر الى الخارج، وسهولة الحصول على المعلومة والخبر والافكار من خلال القنوات الفضائية بأرخص الاثمان، ثم انتعاش الحالة الاقتصادية بانفتاح العراق على دول الجوار، وايضاً الحالة المعيشية، فراح الناس يشيدون البيوت، ويفتتحون المشاريع التجارية، وتسابق التلاميذ على المدارس، والشباب على الجامعات، في وقت كان هذا الأمر تحديداً من أبعد ما يفكر به العراقيون، لاسيما بالنسبة للفتيات، ولكن في تلك الايام شعر الناس بالأمن على بناتهم من ناحية النظام العام للدولة الجديدة (الديمقراطية).
الابتلاء تعاني منه معظم شعوبنا الاسلامية، وكوننا في هذا الحيّز المحدود، فمن الجدير تسليط الضوء على الوضع العراقي والنظر في مستوى نشاط هذه السياسة (العصا والجزرة)
وما الفساد الاداري، ومن ثم إشعال الاضطرابات الداخلية بأزرار الحواسيب والهواتف المحمولة إلا حلقة أخرى في سياسة العصا والجزرة التي يبدو ان تقدمت خطوات في منهجها، وفي ثمارها، فهي لم تحصل على الحركة المستمرة الى الامام وانشغال الناس بقضاء ساعات ايامهم وحسب، وإنما تمكنت ـ الى حدٍ ما- من التلاعب بالادمغة، وايضاً بالمزاجات والمشاعر لخلق مواقف وأحكام جديدة حسب الحاجة، كأن يكون اليوم الحب والودّ لهذا البلد، او الكراهية لذاك، أو القبول بهذه الفكرة ونبذ تلك، وفي هذا المضمار تقع المناكفات والتقاطعات العنيفة بين افراد المجتمع، انطلاقاً من افراد الأسرة الواحدة، وحتى الاصدقاء، والزملاء، وابناء المدينة، وابناء الطائفة الواحدة وهكذا، ليجد البعض نفسه ينقاد الى مواقف وأحكام لا يجد لها تفسيراً موضوعياً إن سُئل عنها، إلا انه سمع من هذا، او تأثر بتحليل ذاك، وفي أحسن الحالات يكون الأمر نتاج تصورات واستنتاجات قائمة على العواطف والانفعالات السريعة.
هذا الابتلاء تعاني منه معظم شعوبنا الاسلامية، وكوننا في هذا الحيّز المحدود، فمن الجدير تسليط الضوء على الوضع العراقي والنظر في مستوى نشاط هذه السياسة (العصا والجزرة) لنجدها حالياً في مرتبة عالية عندما يتوزع التفكير العراقي في اتجاهين ـ على الاغلب-: متابعة الصراعات الاقليمية المحيطة بالعراق، لاسيما الصراع الايراني- الاميركي، يقود هذا الاتجاه النخبة الاعلامية والثقافية، بينما الاتجاه الآخر الذي يقوده الكسبة، والموظفون، واصحاب المهن الحرة، كل من يعيش على الراتب الشهري، فهو يتابع عن كثب أخبار الراتب، وفي أي يوم تنطلق فيه منافذ البطاقة الذكية لصرف الرواتب.
وأكثر من ذلك بكثير! عندما راح البعض لينكئ بالجراح، ويتحدث عن “الشعب المخدوع”، أو تكرار صفات سلبية وحالات نفسية موجودة في عامة البشر، ويتم تخصيصها في الشعب العراقي تحديداً، مثل الميل الى الفوضى، والازدواجية، وحب المال والأنا وغيرها مما نجده بشكل أشد وأكثر وضوحاً في شعوب اخرى بالعالم ولا يتحدث عنها أحد، كما لا يتحدث أحد ـ إلا القليل- عن مناقب ومآثر هذا الشعب، وما حصل عليه من شهادات تكريم وإطراء في العالم في كرمه وشجاعته.
إن كانت النخبة الاعلامية والثقافية لا تعلم حجم القدرات والامكانات في العراق، وما يكن أن يحدثه من تغييرات هائلة في داخله، وفي محيطه الاقليمي وحتى الدولي، فان أصحاب الشأن في اميركا و اوربا يعلمون علم اليقين بما لدى العراق مما يفتقر اليه الكثير من البلدان في المنطقة والعالم، ولا أجدني بحاجة الى العدّ والاحصاء، ربما يكون المتابع الحصيف، والقارئ اللبيب يجد منها الكثير من حوله، إنما تلزمني الاشارة الى ضرورة عدم السكوت على وجود هذه السياسة البائسة التي توصف للشعوب قليلة المناعة ثقافياً وحضارياً، فيما العراق، بلد القيم السامية، والعلوم، والآداب، والثورات، مع امكانات وفرص هائلة للنمو الاقتصادي وتحقيق أفضل ما يكون من العيش لجميع من يسكنون داخل هذه الحدود، فضلاً عن تصدير الفائض الى الخارج، فاذا فطن العراقيون هذا، وآمنوا بقدراتهم، وانطلقوا في تنشيط أعمالهم التجارية، والتقدم في بحوثهم وابتكاراتهم العلمية، فان الاحداث السياسية لن تسير كما هي اليوم تجعل العراق جسراً للعبور، او وسيلة لتحقيق مصالح اقتصادية.