بناء الحضارات يستغرق عقودا من الزمن وسقوطها يستغرق عقودا من الزمن ايضا .. وإن بدا في بعض الحالات أنه حدث فجأة، وفي كلا الحالتين: تتظافر عشرات العوامل لتحقيق تلك النتيجة.
فالحضارة تشبه الإنسان: كلاهما يولد وكلاها يموت، كما أن الإنسان لا يريد أن يصدق أنه سيموت في يوم من الأيام، كذلك أصحاب الحضارات لا يحبذون الحديث عن أن حضارتهم سوف تسقط، لكن الحقيقة تقول: إن سقوط الحضارة، ودمار الأمم، وتخلف المجتمعات أمر قد وقع في السابق، وإنه يقع في اللاحق. {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}.
إلا أن هذا السقوط وهذا الأجل ليس بالحتمية التأريخية التي ينادي بها البعض، وإنما نتيجة لتراكم مجموعة من العوامل عبر الزمن.
ولو ألقينا نظرة فاحصة على أسباب سقوط أية حضارة في التاريخ، لوجدنا أنها تتلخص في ابتعادها عن تعاليم الأنبياء، عليهم السلام، ومخالفتها لسنن الله تعالى في الحياة.
فأمة عاد وثمود، وحضارة الفراعنة وأمثالها، إنما سقطت بسبب استغنائها عن الخالق، وطغيانها على المخلوق. يقول ربنا: {أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ* الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}.
ونذكر هنا بعض عوامل سقوط الحضارات:
1ـ الكفر وعدم الإيمان بالله:
حينما يصاب محور العقيدة ـ وهو الإيمان بالله عز وجل ـ بالانهيار، فإن الفرد إما أن يصاب باليأس والاحباط والقنوط وضعف الارادة، أو ان يصاب بالغرور والتجبر والعدوان، وكلاهما يؤدي الى السقوط {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}.
فإذا زاغ المرء عن أمر الله عز وجل فإن الله يزيع عنه فلا يجعل الكون في خدمته، يقول ربنا عز وجل: {زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}، وكذلك الأمم عندما يضعف ايمانها، ويدب فيها الظلم فإنها تنتهي الى الدمار: {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ}، وهذه السنّة الالهية ثابتة، ومستمرة، وباقية ببقاء الكون.
إن الانحراف العقائدي والكفر بخالق هذا الكون له تأثير كبير ومباشر في انهيار البناء الحضاري، يقول تعالى: {وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ}.
فالشيطان كان ولا يزال، يصور للإنسان أن مقاليد الأمور بيده، وأنه كلما تطور وتقدم فهو قادر على البقاء والاستغناء عن العون الالهي، “وكذلك يفعل المستكبرون والمفسدون فهم يوهمون الناس أبدا بالتقدم والرفاه والامن والازدهار، وحتى الرزق الطبيعي إنما يأتيهم نتيجة الكيان الاجتماعي والثقافي، والنظام السياسي والاقتصادي الذي يشرفون على تسييره، فلو تزلزل الكيان وانهدم النظام فإن كل الخيرات مهددة بالزوال”.(المرجع المدرسي من هدى القرآن؛ ج4؛ ص56).
إلا ان الحقيقية جلية وواضحة وهي أن كل أمة كفرت بخالق هذا الكون ومدبر شؤونه، سقطت وانهارت ولو بعد حين، فالله عز وجل الذي اعطى البشر القدرة على البناء، وهو أيضا اعطاه العقل للتفكير، وكل هذه من عوامل البناء الحضاري، يقول تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ}.
2ـ المعاصي والذنوب:
تنخر المعاصي والذنوب في جسم الحضارة، وتقضي عليها وأهلها غافلون منغمسون في عصيانهم لله، والذنوب لها تأثير سلبي مزدوج على المجتمع، فمن جهة هي تحدٍ للقدرة الالهية الحاكمة على الكون بكل تفاصيله، ومن جهة أخرى هي مخالفة لكل قوانين التقدم الحضاري، ولها تأثير بليغ على المنجز الحضاري.
يقول ربّنا تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ}، ويقول عز وج: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، فحقيقة الإهلاك بالذنوب والانهيار الحضاري بسبب المعاصي حقيقة ثابتة وإن تنكر لها البعض، قال الإمام الرضا، عليه السلام: “إنما هلك من كان قبلكم بما عملوا من المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار عن ذلك”.
إن معصية الله لا تقتصر على ترك الصلاة أو شرب الخمر او ما أشبههما، بل إن عدم تطبيق النظام التشريعي الذي وضعه الله للبشر، هو نوع من العصيان، وممارسة الذنب، ولذلك فإن الكثير من الحضارت سقطت بسبب عدم عصيانها للخالق في عدم تحكيم النظام التشريعي الذي ارتضاه الله تعالى لهم، يقول ربنا: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ}.
ما في عالم اليوم من مَدَنية مزدهرة، ليست بسبب الانظمة الجاهلية الحاكمة هنا وهناك، وليست بسبب النظام المادي، ولا حتى بسبب فصل الدين عن السياسة، او الانفصال عن الجذور التاريخية، وإنما السبب وراء المدنية والتقدم هو السعي من أجل عمارة الأرض، عبر الالتزام بسنن الله الصالحة، كالعمل والاجتهاد
وكمثال على ذلك يبين لنا القرآن الكريم كيف أن أهل مدين حينما تركوا النظام الاقتصادي الذي أراده الله، وأفسدوا في الأرض، أهلكهم الله بذنوبهم: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}.
فجاء جواب مدين الرافض للحق: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ}.
ونتيجة لمعاصيهم وذنوبهم كان الامر الالهي حاسما: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتْ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ}.
الحضارات البشرية تبدأ بتطبيق سنن الله في تسخير الحياة عبرالالتزام بأخلاقية السعي والتعاون، ولكنها تنسى دور هذه السنن في تقدمها، وتتوجه الى الاصنام، وتزعم أنها هي واهبة التقدم والرفاه
3ـ مخالفة سنن الباري عز وجل:
لقد خلق الله تعالى الكون وما فيه على أساس مجموعة من السنن والقوانين والأنظمة، وهذه السنن حاكمة على كل شيء فمن أراد الاستفادة مما في الكون فعليه أن يعترف على هذه السنن والقوانيين، ثم يعمل على تطبيقها؛ {أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ}، فمن يتصور أنه قادر على القفز على هذه السنن، فليمنع الموت عن نفسه.
ترى هل يمكن أن تتجاهل الجاذبية، وتدعي بعدم وجودها، ثم تلقي بنفسك من فوق سطح عالي وتقول سوف أصعد الى السماء ولن أسقط الى الارض؟
ترى هل يمكن أن تمشي فوق سطح البحر، وتمنع نفسك من الغرق؟!
نعم يمكنك بمعرفة قوانين الكون أن تسخّر ما يساعدك على التعامل معها، ولذلك فقد استطاع البشر أن يصنع الطائرة ليتجاوز الجاذبية، أو السفينة لتسير فوق الماء، وهكذا.
وهنا لابد من الاشارة الى أن بعض هذه السنن واضح وجلي، وبعضها بحاجة الى تبيين وتوضيح، ولذلك فقد بعث الله الرسل والأنبياء، عليهم السلام، ليبينوا لنا هذه السنن الخافية علينا.
وفي الحقيقة فإن “ما في عالم اليوم من مَدَنية مزدهرة، ليست بسبب الانظمة الجاهلية الحاكمة هنا وهناك، وليست بسبب النظام المادي، ولا حتى بسبب فصل الدين عن السياسة، او الانفصال عن الجذور التاريخية، وإنما السبب وراء المدنية والتقدم هو السعي من أجل عمارة الأرض، عبر الالتزام بسنن الله الصالحة، كالعمل والاجتهاد، والتعاون، والتطلع، وما دامت هذه الشعوب ملتزمة بهذه السنن فهي تحافظ على مكاسبها، وحين تنحرف عنها، وتستعيض عن السعي بالفخر، وعن الاجتهاد بالغرور، وعن التعاون والتطلع بٍالمفاخرة والاستغلال، فإنه مهددة بفقدان مكاسبها.
فالحضارات البشرية تبدأ بتطبيق سنن الله في تسخير الحياة عبرالالتزام بأخلاقية السعي والتعاون، ولكنها تنسى دور هذه السنن في تقدمها، وتتوجه الى الاصنام، وتزعم أنها هي واهبة التقدم والرفاه”. (المرجع المدرسي؛ من هدى القرآن الكريم ج4؛ ص57).
ونضرب مثالين:
أولا: سلامة العلاقة بين الجنسين
لقد خلق الله تعالى الرجل والمرأة ضمن إطار محدد وسنن واضحة؛ فالرجل بطبعه يميل الى المرأة وكذلك المرأة تميل الى الرجل، ومنعا للتفسخ في المجتمع فقد وضع الله حدودا وضوابط لهذه العلاقة، ففي الوقت الذي لم يقمع هذه الغريزة القوية إلا أنه حددها ضنم إطار الزواج الشرعي، وكذلك فقد بيّن الله الحدود في التعامل بين الرجال والنساء، ووجه الغرائز لتصب في مكانها الصحيح، ومن هنا فإن المجتمع الذي يقفز على هذه السنة سينهار حتما، والأمثلة على ذلك كثيرة وواضحة، وقد ذكر الله عز وجل في القرآن قصة قوم نبي الله لوط عليه السلام، وما حصل لهم نتيجة مخالفة هذه السنن: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ * وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ}.
ثانيا: العمل والاجتهاد
إن سنة الله في الكون قائمة على العمل والاجتهاد، وأن بلوغ الغايات لا يكون بالكسل والتقاعس: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى}، ولذلك فإن المجتمعات النشيطة والعاملة تبلغ أهدافها وتحقق طموحاتها، بعكس المجتمعات الخاملة المتكاسلة، فإذا تركت المجتمعات المتقدمة الجِدَّ والنشاط فإنها تنهار وتتراجع.
إذن فسنن الله تعالى حاكمة على الكون في كل شيء، وحاكمية سنن الله في إقامة الحضارات وتشييد الدول هي جزء من هذه الحقيقة، والمجتمع الذي يتخلى عن السنن فإنه مجتمع منهار وساقط.
وهناك أيضا اسباب كثيرة منها:
ـ كفران النعم
ـ الظلم
ـ صغائر الأمور
ـ الترف والبطر
ـ الفساد
ـ ترك الامر بالمعروف
ـ التفرق والاختلاف
ـ الاستبداد.