-
مقدمة
قرأتُ هذه الكلمة الجميلة لسماحة السيد هادي المدرسي (حفظه الله): “لولا الإيمان بالغيب، لم يفكّر أحد بتغيير شيء في الحياة“، فوقفتُ عندها أتأملها وأبحث في عمقها بعض الشيء، فرأيتُ أن الغيب هو ذلك السِّر الذي لا ولن ينكشف إلا للمؤمنين به، وأما أولئك الجاحدين له فإنه سيبقى سراً عليهم، وباباً مغلقاً دونهم لأنهم هم الذين أقفلوه على أنفسهم، بنكرانهم، وجحودهم له.
فما هو الغيب الذي نؤمن به؟
وكيف يُغيِّر الغيب حياة المؤمنين به والجاحدين له، على حدِّ سواء؟
تلك هي المسألة التي أحب أن أُشير إليها في هذه العُجالة من خلال استعراض بعض الأطراف الأساسية لمسألة الغيب التي نؤمن بها، وتغيِّر حياتنا إلى الأفضل، بل تزرعها بالورود والرياحين، وتفرشها بالسَّعادة والراحة النفسية التي تجعلنا نشعر بالحياة وبهجتها في كل حين.
-
من أنوار القرآن الحكيم
والقرآن الحكيم هو دستور السَّعادة في هذه الدنيا، وذلك لأنه كلام الله لهذا المخلوق المكرَّم الذي يُطلق عليه اسم (إنسان)، فمن أعظم نعم الخالق لهذا المخلوق هو إنزال كلامه النوراني ليتكلم مع عبده من خلاله وليُبيِّن له الحقائق كما هي، ويأمره بالإيمان بالغيب، وفي مطلع أكبر سورة فيه قال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (البقرة: 3).
فالقرآن الحكيم هُدى للمتقين الذين يتصفون بالكثير من الصفات التي شرحها ووضحها أمير المؤمنين الإمام علي، عليه السلام، في حديثه لهمَّام الذي صعقته وكانت بها نفسه كما في نهج البلاغة، ويفسِّر ذلك سماحة السيد المرجع المدرسي (دام عزه) في تفسيره الرائع حيث يقول: “أهم تلك الصفات (للمتقين) هي الإيمان بالغيب، والذي يعني تجاوز الحقائق التي يشهدها الإنسان مباشرة للوصول إلى تلك التي لا يشهدها مباشرة.. هذه المقدرة التي تجعلنا – نحن البشر- نحصل على ميزة العلم بالمستقبل (الغيب)، عن طريق معرفة الحاضر (الشهود)، والعلم بالماضي (الغيب) عن طريق مشاهدة آثاره على الحقائق الحاضرة (الشهود).. هذه الصِّفة تتعمق في المتقين إلى درجة الإيمان فهم يؤمنون بالمستقبل، ولا يقفون عند معرفته فقط، ويؤمنون بالماضي ولا يتوقفون عند العلم به فحسب، وفرق كبير بين الإيمان والعلم؛ الإيمان؛ هو التسليم النفسي والعقلي للعلم، وتطبيقه على الحياة فعلاً، وأعظم الغيب وأظهره هو الإيمان بالله الذي انتشرت آياته الظاهرة على كل أفق وفي كل شيء، والإيمان به أصل الإيمان”. (من هدى القرآن؛ السيد محمد تقي المدرسي: ج1 ؛ ص158).
قال رسول الله : “وددتُ أنِّي لقيتُ إخواني قالَ: فقالَ أصحابُ النَّبيِّ: أوليسَ نحنُ إخوانَكَ قالَ: بل أنتُم أصحابي ولكنْ إخواني الَّذينَ آمَنوا بي ولم يرَوني
-
الغيب غيبان
فالجدير بالذكر هنا ومن خلال تفسير سماحة السيد المرجع للغيب يُشير إلى نوعين من الغيب وليس إلى نوع واحد كما يتبادر إلى الأذهان لأول وهلة في القراءة، حيث تتعلق كلمة (الغيب) بالمستقبل فقط، بل هما غيبان؛
- غيب الماضي؛ لأنه مضى وغاب عن رؤيتنا له ولكن يمكن أن نعلم به بالبحث.
- غيب المستقبل؛ الكامن في رحم الزمان والأيام الآتية والذي يمكن أن نعلمه من خلال معرفتنا بالحاضر الذي نعيشه، والماضي الذي خَبرناه، وعرفناه، ومن هنا ينبع ضرورة قراءة الماضي (التاريخ) بشكل دقيق وصحيح، ومنهجي لاستشراف المستقبل.
ومن الماضي الذي يجب أن نؤمن به هم الأنبياء والرسل والأوصياء والأولياء، عليهم السلام، والكتب المنزلة من السماء لهداية البشرية إلى طريق الحق والحياة بصدق، حتى أننا نؤمن برسول الله، صلى الله عليه وآله، والقرآن الحكيم إيماناً منا بالغيب الماضي لأن بيننا وبين رسولنا قرون متطاولة وهذا ما نقرؤه في الدعاء المعروف: {اللَّهُمَّ إِنِّي آمَنْتُ بمُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَلَمْ أرَهُ فَلا تَحْرِمْني يَوْمَ القيامَةَ رؤيَتَهُ وَارْزُقْني صُحْبَتَهُ وَتَوَفَّني عَلى مِلَّتَهُ}. (مفاتيح الجنان: ص766).
فإيماننا بالرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله، هو إيمان بالغيب التاريخي والماضي البعيد وهذا من أعظم الإيمان وأكبره وذلك لما فيه من صعوبة ويُروى أن رسول الله سأل أصحابه قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة، في حديث يرويه الحاكم في مستدركه قال صلى الله عليه وآله لهم: “أتدرون أي أهل الإيمان أفضل إيماناً؟ قالوا: يا رسول الله الملائكة، قال: هم كذلك ويحقُّ ذلك لهم وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها بل غيرهم، قالوا: يا رسول الله فالأنبياء الذين أكرمهم الله تعالى بالنبوة والرسالة، قال: هم كذلك ويحقُّ لهم ذلك وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها بل غيرهم، قالوا: فمَنْ هم يا رسول الله؟ قال: أقوام يأتون من بعد في أصلاب الرجال فيؤمنون بي ولم يروني ويجدون الورق المعلق فيعملون بما فيه فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيماناً“.
إنها ميزة الإنسان التي تسمو به بين سائر الأحياء علم بالغيب من خلال علم بالظاهر، فترى أننا نعرف الماضي من خلال الحاضر، ونعرف المستقبل أيضاً بعد معرفة الحاضر
-
إخوان رسول الله وأحباءه
ويُروى أن رسول الله، صلى الله عليه وآله، سمَّاهم إخوانه ورفض هذه التسمية لأصحابه حيث قال يوماً: “وددتُ أنِّي لقيتُ إخواني قالَ: فقالَ أصحابُ النَّبيِّ: أوليسَ نحنُ إخوانَكَ قالَ: بل أنتُم أصحابي ولكنْ إخواني الَّذينَ آمَنوا بي ولم يرَوني“. (الصحيح المسند: 32).
وفي رواية أُخرى: “بكى رسول الله يوماً فقالوا: ما يبكيك يا رسول الله؟ قال: اشتقت لأحبابي قالوا: أولسنا أحبابك يا رسول الله قال: لا أنتم أصحابي أما أحبابي فقوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني“، وفي رواية ابن أبي أوفى، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وآله فقال: “إني لمشتاق إلى إخواني، فقلنا: أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: كلا أنتم أصحابي وإخواني قوم يؤمنون بي ولم يروني“. (تاريخ دمشق: ٣٠/١٣٧).
فالإيمان برسول الله، صلى الله عليه وآله، ومحبته والدفاع عنه، والتمسُّك بسيرته وسُنَّته من قبل أجيال الأمة الإسلامية هي أعظم وأجل وأكرم عند الله ورسوله، من أولئك الذين يُسمونهم الصَّحابة ودوَّخوا رؤوسنا بهم، فأي فضل لهم – كما في نصِّ الرواية ـوهم يَرون رسول الله، بينهم ونزول الآيات من السماء تُخبرهم وتُسددهم وتحميهم وتحفظهم بالسَّكينة تارةً وبالملائكة تارات أخرى ورغم ذلك كان إيمانهم متزلزلاً، وفرُّوا من الزَّحف ولما وصلوا إلى جبل أُحد وسمعوا صريخ الشيطان بلسان سُراقة: “قتلتُ محمداً”، راحوا يبكون كالنساء ويقولون: “مَنْ يشفع لنا عند أبي سفيان” رأس الكفر والشرك والنفاق؟ فأي إيمان كان لديهم ورسول الله، يُخبرهم بالنَّصر إن صبروا يوم الأحزاب ولكن يقولون: “يَعِدُنا أن نفتح قصور كسرى والروم وأحدنا لا يستطيع أن يقضي حاجته”؟ وأي إيمان عندهم وبعد عام الفتح وكانوا جيشاً عرمرماً (لن يُغلبوا معه من قِلَّة) كما قال الرجل القرشي، وما أن وصلوا إلى وادي حُنين حتى فروا جميعاً إلا بني هاشم الأكارم؟
-
وأعظم الأحباب إيماناً
ومن خلال الأحاديث يظهر جلياً أنّ سبب العجب من ذلك الإيمان؛ هو تصديق ما جاء عن الرسول من خلال ما هو مسطور ومكتوب ومقروء، لا من خلال رؤيته والحضور بين يديه الكريمتين، والأعجب والأعظم من ذلك هو ليس فقط غياب النبي، بل حتى الإمام والحجة غاب عنهم، ومع ذلك آمنوا بما وصل إليهم إيمان حق ويقين يُقدِّمون أرواحهم فداء ذلك، كما في التاريخ كله لا سيما عصرنا الحاضر حيث ذُبحنا على الاسم والهوية والبلد دون ذنب لنا عند أحد، وهذا ما بيَّنه النبي صلى الله عليه وآله بقوله لأمير المؤمنين عليه السلام: “يا علي.. اعلم أنّ أعجب الناس إيماناً، وأعظمهم يقيناً، قوم يكونون في آخر الزمان لم يلحقوا النبي، وحُجبت عنهم الحجة، فآمنوا بسواد على بياض“.
فهؤلاء الكرام وبالرغم من غياب الحُجة فإنّ إيمانهم أقوى وأشد من إيمان مَنْ كان حاضراً في زمن الإمام والحُجة وهذا لا يحصل إلاّ لمَنْ صارت عنده الغَيبة بمنزلة الحضور والمشاهدة، وبذلك صاروا هم أفضل من أهل كل زمان؛ كما يشهد لهم الإمام زين العابدين عليه السلام بقوله: “إنّ أهل زمان غيبته والقائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره أفضل من أهل كل زمان، لأنّ الله تبارك وتعالى أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغَيبة عنهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسيف، أولئك المخلصون حقاً وشيعتنا صدقاً، والدُّعاة إلى دين الله سرّاً وجهراً“.
-
الإيمان بالحجة الغائب في المستقبل
وهذا من أعظم وأجل وأكبر الإيمان، ولذا ورد: “أفضل العبادة انتظار الفرج“، ويقول سماحة السيد المدرسي في ذلك الغيب: “انتظار الإمام الغائب، انتظار يوم الدِّين، والإيمان بالوحي النازل من الغيب، وأكبر من كل ذلك الإيمان بالله سبحانه وأسماءه الحسنى، كل ذلك إيمان بحق تشهد عليه آياته.. فبالتَّسامي من ظاهرة مشهودة كالشمس والقمر واختلاف الليل والنهار، نعرف حقاً آخر غاب عن أعيننا، وصدَّقت به عقولنا، وبصرت به قلوبنا.
وإنها لميزة الإنسان التي تسمو به بين سائر الأحياء علم بالغيب من خلال علم بالظاهر، فترى أننا نعرف الماضي من خلال الحاضر، ونعرف المستقبل أيضاً بعد معرفة الحاضر”. (الإمام المهدي (عج) والإيمان بالغيب؛ السيد محمد تقي المدرسي: ص9).
فنحن نؤمن بالغيب كله من الخالق تعالى، ورسُله، وكُتبه، وحتى الإمام الحجة الغائب، عجل الله فرجه، إيمان حق ويقين لا يُخالطه شك ولا ريب والحمد لله رب العالمين، وهذا ما يجعلنا نتغيَّر باتجاه المستقبل الواعد في دولة العدل والصلاح والإصلاح العالمية، وهذا في الحقيقة إكسير الحياة البشرية لم يُدركها إلا المؤمنون بالغيب كله.