-
مقدمة ومناجاة
كُنا في أيام شهادة رسول الله، صلى الله عليه وآله، قبل أيام انتشر مقطع لسماحة المرجع الدِّيني السيد محمد تقي المدرسي -دام عزه- ما يُشبه المناجاة ولكن بصوتٍ عالٍ، فقد أراد سماحته أن يُنادي جدَّه رسول الله، في هذا العصر الأغبر، وأحبَّ أن يَسمعه كل الناس، نسمعه حيث يقول سماحته: “ما أحوجنا إليك يا رسول الله، يا رسول الله؛ يا خير خلق الله، يا سيد المرسلين! ما أحوجنا إليك في هذا اليوم، في عالم يعجُّ بالأزمات، ويعيش على حافَّة الرُّعب النووي، ويزداد فيه الأغنياء غنى، والفقراء فقراً وحاجةً.
في العالم يَستعبِد الأقليَّة الصغيرة جداً المستأثِرة، الأغلبية السَّاحقة ويُذيقوهم ألَمَ الفقر، والمرض، وألمَ الحرب، وآلام أخرى كثيرة، ما أحوجنا إلى نهجك القويم وإلى خُلقك العظيم الذي قال عنه الرَّب سبحانه وتعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}. (القلم: 4).
خُلُقكَ الذي كان كالعِطر -ولا يزال حتى اليوم- كما العِطر الفوَّاح الذي جذب إليه الملايين، حينما وقفتَ يا رسول الله، صلى الله عليه وآله، وكأني أشاهدك في البيت الحرام، عند الكعبة المشرَّفة، وقد أباحها الله لك ساعةً ولم يُحلَّلها لأحد غيرك، لا من قبل، ولا من بعد حين فتحتها عنوةً، وحين كان المؤمنون والمسلمون وأيديهم على مقابض سيوفهم تستبدُّ بهم شهوة الانتقام، لأنهم جاؤوا إلى منطقةٍ هي قلب الصِّراع ضدَّ الإيمان وضدَّ المؤمنين.
جاؤوا إلى منطقةٍ لهم عليها أوتار كثيرة، حيث قَتلوا أعزَّ المسلمين في بدر، وفي أُحد، وخيبر، وحنين وغيرها من المشاهد الكثيرة، حيثُ قلبُ المؤامرة، وكانت النفوس تلتهبُ وتتنظرُ لحظة رسول الله يقول لهم: انتقموا منهم! ولكن قلتَ كلمتك الرائعة: “اذهبوا فأنتم الطُّلقاء“.
هذا الخُلق العظيم حتى الآن يجعل العالم يتَّجه إليك يا رسول، الله صلى الله عليه وآله، لكن! أين أنتَ اليوم؟ بل أين نحن منك؟ نحن فقدناك، نحن ظلمنا أنفسنا عندما تركنا رسول الله البشير النذير، والسِّراج المنير، تركنا نهجه، و تركنا أنه القدوة والأسوة والأنموذج الأمثل في حياة البشر، وأنه الإنسان الكامل الأكمل عبر التاريخ”.
هكذا ناجى سماحة السيد المرجع المدرسي جدَّه رسول الله، صلى الله عليه وآله، في هذا الزمن الذي ابتعدت فيه أمته عن نبيِّها، ورسول الله فيها، وهي أحوج ما تكون اليه حيث يُمثِّل لها القدوة والأسوة في حياتها، لتبني نفوسها، وأسرها، ومجتمعها، وحضارتها الإنسانية الراقية.
“ظلمنا أنفسنا عندما تركنا رسول الله البشير النذير، والسِّراج المنير، تركنا نهجه، و تركنا أنه القدوة والأسوة والأنموذج الأمثل في حياة البشر، وأنه الإنسان الكامل الأكمل عبر التاريخ”. المرجع المدرسي
-
العالم يضجُّ بالفساد
فالعالم اليوم أصبح بؤرة للفساد بكل أنواعه وأشكاله التي لم يعهدها البشر من قبل، حتى في أدنى حالاته المتخلفة والتي تتفوق على الحالة الحيوانية والبهيمية في الأفعال والتصرفات، فالعالم المتحضِّر وأصحاب الحضارة الرقمية شرَّعوا كل نقيصة، وعار وفساد، ونشروا كل كفر وفسوق وإلحاد، وراحوا يُحاربوا كل فضيلة ومكرمة وصلاح، ومنعوا كل عبادة وطهارة وإيمان.
كل ذلك صار بشرائع سنُّوها وقوانين كتبوها، حتى يمنعوا ويسدوا طرق الصلاح والإصلاح بوجه كل مَنْ يُريد الإصلاح في المجتمعات لأنه سيظهر وكأنه هو المجرم والمخالف للقانون فيُحاكم ويُسجن ويُغرَّم بأشد العقوبات المادية والمعنوية، وراحت هذه القوانين المخالفة للفطرة الإنسانية، والبديهيات البشرية تزحف إلى بلادنا الإسلامية للأسف الشديد، فكانت الخطوات الأولى تحديد النسل، ثم منع الزواج المتعدد، وبعدها إباحة الإجهاض، ومنع التَّصرف بالأولاد، و ربما أخذهم من أحضان أمهاتهم آبائهم ليُربُّوهم هم على التَّحلل والفساد الذي ما بعده فساد أبداً.
في هذا العالم الذي شُرّع للمثليين تصرُّفهم الشَّاذ، وشرَّع لهم أن يتزوَّجوا من البهائم، والمحارم، وحرَّم عليهم الزواج المتعدد، أو المتعة والزواج المؤقت، فأحلوا كل حرام، وحرموا كل حلال ليملؤوا الأرض بالفساد بخطَّة ممنهجة نابعة من التوراة المحرفة، والتلمود لأنهم يعتقدون: “أنه عندما يملؤون الأرض بالفساد سيظهر المسيح المخلص منهم”، فهم يعملون جاهدين لملء الأرض بكل أنواع وأشكال الفساد، والكثير من المسلمين يسيرون في ركابهم دون علم أو فهم، بل كالقطيع يُساقون إلى الجزار وهم يضحكون، فالعالم اليوم يسير إلى الهاوية بسرعة هائلة تدفعه إليها الماسونية والصهيونية العالمية بما هيَّأت لهم الحضارة الرقمية المتقدمة من إمكانيات هائلة بالفساد صناعة، وبضاعة، وتسويقاً وتمزيقاً.
وفي الحقيقة؛ مع كل يوم جديد وكل مطلع شمس تزداد حياة البشر تعقيداً، وتشابكاً، وإرباكاً، ولم تعُد الحياة ساذجة وبسيطة سهلة كما في السَّابق من تاريخها، بل أصبح للصراع المادي المتواتر حضوراً قويّاً في تلويث الواقع العالمي، البشري، والحيواني، والنباتي، لذلك بات الإنسان متوتراً، يعيش يومه على إيقاع ماديّ محموم، وقلّما تجد في البشر وجهاً بشوشاً، وإنساناً يلقى الآخرين ببشاشة أُناس ما قبل عصر العولمة والتكنولوجيا والثورة الرقمية والحضارة الالكترونية.
إذا تركنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهجرنا كتاب ربنا، وفارقنا الجهاد في سبيل الله، تكون النتيجة: الجهاد يستهدف الأخوة في الدِّين، وتحريمه على الأعداء
-
الأمة تئنُّ من النفاق
والحرب الآن المستعرة على الإنسان في كل مكان من قبل الاستكبار العالمي، لاسيما الفقراء والضعفاء والمساكين والبسطاء ـكما أشار سماحة السيد المرجع ـ فإنها أشد وأعظم على هذه الأمة الإسلامية المرحومة لأنها الأمة الوحيدة العظيمة بكل ما لديها من تراث إنساني يُؤهلها لقيادة البشرية في أعقد ظروفها وأصعب حالاتها كما نعيش اليوم.
فالأمة الإسلامية تعدُّ الآن ربع سكان المعمورة، ولديها تاريخ حضاري هائل، وتجربة رائعة جداً في تاريخ الحضارة الإنسانية، لا سيما وأنها لديها منظومة قيَمة و رائعة، و راقية جداً تُنظِّم جميع مناحي الحياة، وتُعطي أحكامها في كل شاردة و واردة، وصغيرة وكبيرة، فما من حادثة إلا ولله فيها حكم، فالإمام الصادق، عليه السلام، يقول: “ما خلق الله حلالاً، ولا حراماً، إلا وله حدٌّ كحدِّ الدُّور فما كان من الطريق فهو من الطريق، وما كان من الدُّور فهو من الدُّور، وان حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة، ولان عندنا صحيفة طولها سبعون ذراعاً وما خلق الله حلالاً ولا حراماً فما كان حتى أرش الخدش، فما سواه والجلدة، ونصف الجلدة“. (بحار الأنوار: ج 2 ص170).
ورغم ذلك فقد صارت هذه الأمة العظيمة، وهذا الدِّين الحنيف غرضاً يُرمى وهدفاً لكل تافه يُحاول أن يُسمع صوته النشاز في عالم الشَّواذ، فيعمَد إلى الإسلام العظيم، أو القرآن الحكيم، أو الرسول الكريم، ويُحاول أن يُسيء له بأي طريقة أو أسلوب، حتى انطبق علينا ما نبَّهنا إليه رسول الله، في رواية ثوبان، قال، صلى الله عليه وآله: “يُوشِكُ أن تَدَاعَى عليكم الأمَمُ من كلِّ أُفُقٍ، كما تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِها، قيل: يا رسولَ اللهِ! فمِن قِلَّةٍ يَوْمَئِذٍ؟ قال: لا، ولكنكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيْلِ، يُجْعَلُ الْوَهَنُ في قلوبِكم، ويُنْزَعُ الرُّعْبُ من قلوبِ عَدُوِّكم؛ لِحُبِّكُمُ الدنيا، وكَرَاهِيَتِكُم الموتَ” (صحيح الجامع الألباني: 8183، حكم والحديث صحيح).
فإذا تركنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهجرنا كتاب ربنا، وفارقنا الجهاد في سبيل الله، تكون النتيجة: الجهاد يستهدف الأخوة في الدِّين، وتحريمه على الأعداء كما نرى ونسمع منذ قيام الكيان الصهيوني في فلسطين، وهم يُحاولون تحوير كل النصوص، حتى القرآنية والروائية لعكسها من العدو -لا سيما اليهود منهم- إلى قتال أهل الملة والدِّين بحجة سمجة وبدعة جاء بها صبيان النار من زبانية ابن تيمية وتلميذه ابن عبد الوهاب الذين تركوا كل الأعداء وصبُّوا جام غضبهم على الإسلام والمسلمين، فكفَّروهم ثم أباحوا كل محرم عندهم، من الدم والمال والعرض، وتركوا الأعداء الواقعيين والحقيقيين من الكفار والمشركين المحاربين كالغرب وربيبته الصهيونية.
فهذا الفكر التكفيري الذي نافق، وكذّب، ودجّل حتى ملأ الدنيا ضجيجاً بتكفيره أهل الإسلام، وصار الناطق الرسمي والوحيد باسمه، أخفى كل جرائم الصهاينة ضد الإسلام والأمة، ثم دفع بعض “الحكومات الاسلامية” جهاراً نهاراً للتطبيع مع الصهاينة، ونقلوا العداء من الصهاينة إلى الأخ المسلم والعربي المظلوم فصارت الوهابية ألعن من الصهيونية.
-
طبيب دوَّار بطبِّه
إن الأمة تحتاج اليوم إلى منهج رسول الله، صلى الله عليه وآله، التي بيَّنها في سيرته وسُنته المباركة، فإنه القائد الرباني والمربي القرآني لهذه الأمة وعندما نتركه ونهجر القرآن والسيرة فإننا سنأخذ بتفاهات الغرب والشرق ونكون تابعين لهم في أهم شيء لدينا وهي أفكارنا وتربية أجيالنا، وقد نخرج من الدِّين الحنيف ونُخرجهم منه، إما إلى الكفر أو الإلحاد كما نراهم اليوم.
وهذا أمير المؤمنين وسيد الوصيين، الإمام علي بن أبي طالب، عليه السلام، يشرح لنا المشكلة ويُشخِّص لنا الحل، ويُعرِّف الدَّاء ويصف الدَّواء، فكل الحلول وأنجع الدواء عند رسول الله، الذي جاء للعرب وقريش في الجاهلية فأنقذهم منها، ونحن أمته ونعيش في عصر الحضارة الرقمية، فما علينا إلا العودة إلى ذاك الطبيب العظيم الذي قال فيه أمير المؤمنين: “طَبِيْبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ؛ قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ، وَأَحْمَى مَوَاسِمَهُ، يَضَعُ ذَلِكَ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ؛ مِنْ قُلُوبٍ عُمْيٍ، وَآذَانٍ صُمٍّ، وَأَلْسِنَةٍ بُكْمٍ، مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ، مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ، وَمَوَاطِنَ الْحَيْرَةِ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِأَضْوَاءِ الْحِكْمَةِ، وَلَمْ يَقْدَحُوا بِزِنَادِ الْعُلُومِ الثَّاقِبَةِ، فَهُمْ فِي ذَلِكَ كَالْأَنْعَامِ السَّائِمَةِ، وَالصُّخُورِ الْقَاسِيَةِ، قَدِ انْجَابَتِ السَّرَائِرُ لِأَهْلِ الْبَصَائِرِ، وَوَضَحَتْ مَحَجَّةُ الْحَقِّ لِخَابِطِهَا، وَأَسْفَرَتِ السَّاعَةُ عَنْ وَجْهِهَا، وَظَهَرَتِ الْعَلَامَةُ لِمُتَوَسِّمِهَا“. (نهج البلاغة: خ108).
فأين نحن والعالم والأمم والشعوب والإنسانية قاطبة من هذا الطب الرَّاقي، وهذا الطبيب الحبيب أيها المسلمون؟