منذ فترة طويلة تحدثت عن فكرة “التقاعد” عن العمل، وشجعت أحد الاخوة للكتابة حول هذا الموضوع، والبحث في أصل الفكرة، وهل تنسجم مع قيم التقدم في المجتمعات والأمم المتحضرة والصاعدة كالتي نشاهدها اليوم؟
بعد أيام التقيته وهو مشوش الذهن عليه علامات القلق، وقال: التعرّض لفكرة التقاعد بشكل غير ايجابي، وفي هذا الوقت بالذات، يُعد من المحرمات بين الناس، ومثار للغرابة، وهذا رد فعل طبيعي و مبرر جداً عندما تكون الشعوب ـ ومنها الشعب العراقي طبعاً- مرهونة حياتهم ولقمة عيشهم على رواتب حكوماتهم في ظل نظام الاقتصاد الحكومي المغلق، بل ان الرجال والنساء على حدٍ سواء يتنافسون بحمّى شديدة، والبعض يدفع أموالاً لا بأس بها للحصول على كرسي الوظيفة، ليس فقط طمعاً بالراتب الشهري، وإنما أملاً بالحصول على ضمان الراتب التقاعدي بعد بلوغ سنّ التقاعد، وهو ستون عاماً، فيكون هذا الموظف (والموظفة) ضامناً على جيبه ومصروفه اليومي طيلة حياته، ولو بالقدر اليسير.
في الآونة الاخيرة برزت ظاهرة اجتماعية بين كثير من النساء نبّه اليها علماء النفس الاجتماعي، يشعرن فيها بالغبن من عدم تكريمهن وتقدير تضحياتهنّ في الأسرة، من تربية الاطفال، والوقوف الى جانب الزوج، في أزماته، وفي شدته وفي رخائه
في حين التوجه الحضاري يدعو للتفكير في العمل والابداع والعطاء المستمر مادام الإنسان على قيد الحياة، فالمدرس الكبير بالسنّ يجعل تقاعده في تقديم تجاربه الى المدرس الشاب الحديث التعيين، وكذا المهندس، والطبيب، وسائر الاختصاصات، وهذا تحديداً ما تفعله المرأة المربية في البيت، فهي تقوم بدور حضاري عظيم يجسّده القرآن الكريم بأروع ما يكون في الآية الكريمة: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، (سورة الروم، الآية21)، فالمرأة في بيت زوجها تمثل هي بحد ذاتها “سَكنٌ” للزوج وللأولاد؛ هذه المفردة القرآنية البليغة تنطوي على دلالات عميقة، لعل منها؛ الاستقرار النفسي والمادي، ومحط رحال المتعبين من المشاغل خارج البيت، ومنبع العاطفة والودّ في العلاقات بين أفراد الأسرة، وهذا ما يمكن ملاحظته في اتجاهين؛ الاول: ما يتعلق بتنشئة الطفل وتربيته، والثاني: ما يتعلق بالعلاقات الزوجية، وما أشارت اليه الروايات الشريفة بـ “حسن التبعّل”.
فهل يمكن تقبل المرأة لنفسها أن يمنحها أحد التقاعد عن العاطفة، والحبّ؟ وهل ترضى بأن يقال لها: لقد اصبحت عجوزاً، ولا حاجة لنا بأن تقلقي على هذا أو ذاك، او تفكري بهذه القضية او تلك، يكفيك الطعام والشراب والمنام الجيد، والحاجات الاساسية؟!
-
ما الذي يهدد هذا الامتياز العظيم للمرأة؟
لا يماري أحد في الدور المحوري للزوجة (الأم) في البيت، وكيف أنها تخرّج العمالقة من العلماء والأدباء والمصلحين؟ وكيف أنها تسهم ـ في جانب آخر- في بلورة شخصية الرجل (الزوج)، وتحقيقه النجاحات الباهرة في حياته؟ وهذا ما لاحظناه في الاجيال الماضية في بلادنا الاسلامية ومنها؛ العراق، وما تبقى من الجيل الحاضر، إنما ثقافة الاستهلاك المنبعثة من الرأسمالية الصاعدة منذ بداية القرن الماضي، مع انطلاق عجلة الانتاج بأقصى سرعتها في أوربا واميركا والشمالية تحديداً، خلق للعالم نمطاً جديداً للمرأة المندفعة نحو المصانع ومختلف مراكز العمل بغية الحصول على المال للحصول على آخر موديلات السلع المنزلية الحديثة والاجهزة الكهربائية، التي غيرت طبيعة حياة الناس في الغرب والعالم بأسره، ثم حياة المرأة ايضاً، هذا الى جانب ارتفاع اسعار السكن والمحروقات والعلاج وغيرها من ضروريات الحياة، كلها تضافرت لدفع المرأة في العالم، وفي بعض بلادنا الاسلامية، وبقوة خارج البيت باتجاه الشركات التجارية والاسواق والمصانع الى جانب دوائر الدولة.
وقد كتب العديد من العلماء والباحثين في مجال الأسرة والمجتمع محذرين من مغبة ترجيح كفة العمل المهني خارج البيت على العمل التربوي داخل البيت، ولا أجدني مضطراً للخوض في التفاضل بين الميادنين في العمل بالنسبة للمرأة، لأن هنالك من يجعل “العمل عبادة” حتى للمرأة خارج بيتها! مع سوق العديد من المبررات المعززة للضرورات بوجود الطبيبة الاخصائية في المستشفى، والمعلمة للبنات في المدرسة وامثال ذلك، إنما المهم في هذا السياق التنبّه الى الآثار السلبية المترتبة لعمل المرأة على مهمتها الاساس وهو تنشئة الطفل الصغير ثم تربية الأولاد.
إن وجود زوجة الى جانب الطبيب والمهندس والحقوقي والعامل والفلاح، تشتمل على صفات الصلاح والصبر والعفة، مع ما تملكه من عواطف جياشة خاصة بها، تجعله يعمل ويبدع ويخدم ابناء شعبه بعيداً عن منزلقات الفساد الاداري والمالي والتجاوز، هل يُبقي مجالاً للحديث عن تقاعد لمثل هكذا امرأة عن عملها المنزلي؟!
وهذا يدعونا الى النظر في مقدار أهمية العمل خارج المنزل وضرورته، بالنسبة للمرأة، لاسيما وأن الجامعات تخرج سنوياً اعداداً لا بأس بها من الفتيات وهنّ يحملن شهادات في الطب، والهندسة، والقانون، والادارة، والعلوم، والآداب، وغيرها، يحدوهنّ الأمل بأن يحصلن على نتاج اتعابهنّ الذي يتصورنه بالوظيفة الحكومية، او فرصة العمل في القطاع الخاص، ومن ثم الحصول على المرتب الشهري مما يجعلها مكتفية اقتصادياً ومضمونة معيشياً بلا خوف او قلق من المستقبل، وهذا ما يروجه الكثير ـ مع بالغ الأسف – في مجتمعاتنا، ومنهم الكادر التعليمي في المدارس والجامعات.
لا نتحدث عن الضرورات، لان الكادر التعليمي والطبي وبعض التخصصات المطلوبة الاخرى، تشكل نسبة قليلة من جيش الباحثات عن الوظيفة والعمل خارج المنزل، وحتى هذه الشريحة من العاملات ستكون في صفوف المضحيات ببذل مزيد من الجهد والكفاح للتوفيق بين تربية وتعليم الطلاب، وبين تربية الابناء، وكذا الأمر بالنسبة للعاملات في المجموعة الطبية بشكل عام.
-
بين تقاعد الوظيفة وتقاعد البيت
بشكل مختصر نشير الى تقاعد الوظيفة بالنسبة للمرأة وأنه لن يأتي ـ في معظم الاحيان – إلا على حساب تربية الاطفال، وتصدّع العلاقات الزوجية بشكل او بآخر، وهذه النتيجة السلبية تتأكد أكثر في ظل منافذ اللهو داخل البيت، وعناصر الجذب خارجه بعد تعرض البيوت والعلاقات الأسرية لهجوم كاسح من الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، وقبلها القنوات الفضائية، وحتى ألعاب الاطفال ذات الرسائل والمحتويات المشبوهة.
نعم؛ فيما يتعلق بالعراق، كان حقبة السبعينات الوحيدة التي عاشتها المرأة الموظفة حياة مستقرة الى حد ما، بسبب عدم وجود المخاطر التي نواجهها اليوم، فكانت المعلمة والمدرسة والمهندسة والطبيبة والممرضة، عندما تعود الى البيت كان في استقبالها أبناؤها و زوجها بالابتسامات والترحيب، فهم بدورهم كانوا مشغولين ـ على الاغلب – بالدراسة، أما اليوم فإن العائدة الى البيت لا تجد امامها سوى اطفال يفتقدون لحرارة الحب والودّ، لأن عيونهم متسمّرة على الالعاب وأجهزة الموبايل بمختلف اشكالها، و زوج منهك من العمل من أول الصباح وحتى المساء ـ هذا إن وجدته لبعض دقائق – من الدوام المزدوج (صباحاً ومساءً)، او الخوض في الاعمال الحرة لسد حاجات البيت.
أما التقاعد في البيت فهو بحد ذاته عملٌ مستمر، ومثمر في نتائجه الباهرة على الأسرة أولاً؛ ثم على المجتمع والأمة بأسرها، لأن “وجود المرأة في البيت وعنايتها بالاطفال لا تنعكس آثاره التربوية على الابناء وحسب، بل له انعكاساته النفسية المباشرة على سعادة الزوج واستقرار الأسرة، كما له آثاره على قدرة الرجل على الانتاج المادي، كما تدل الاحصائيات والدراسات العلمية على دور العنصر النفسي في تنمية وتطوير الانتاج، فالشخص الذي يشعر بالسرور والطمأنينة والسعادة ينتج أكثر من الذي يشعر بالملل والبؤس والمعاناة النفسية، ولا أحد يستطيع أن يوفر للرجل هذا الجانب الايجابي من الحياة أفضل من المرأة الصالحة”، (الأمن التربوي للطفل في الاسلام- فاطمة الخاقاني).
إن وجود زوجة الى جانب الطبيب والمهندس والحقوقي والعامل والفلاح، تشتمل على صفات الصلاح والصبر والعفة، مع ما تملكه من عواطف جياشة خاصة بها، تجعله يعمل ويبدع ويخدم ابناء شعبه بعيداً عن منزلقات الفساد الاداري والمالي والتجاوز، هل يُبقي مجالاً للحديث عن تقاعد لمثل هكذا امرأة عن عملها المنزلي؟!
وفي الآونة الاخيرة برزت ظاهرة اجتماعية بين كثير من النساء نبّه اليها علماء النفس الاجتماعي، يشعرن فيها بالغبن من عدم تكريمهن وتقدير تضحياتهنّ في الأسرة، من تربية الاطفال، والوقوف الى جانب الزوج، في أزماته، وفي شدته وفي رخائه.
وللعلماء في هذا المجال رأيٌ بنصح الزوجات بعدم الاستغراق في الحديث عن التضحيات بشباهنّ وبأموالهنّ وغير ذلك من أجل سعادة الاطفال والزوج، وإنما حثّ الزوج، والابناء ايضاً، وإلفات نظرهم الى تلك التضحيات ليكونوا هم المبادرين للتكريم والثناء بشكل طوعي ومفاجئ باعث على البهجة والفخر والاعتزاز.
إن تكريم الزوجة على جهودها وتضحياتها تعد شهادة نجاح عظيمة في دورها الحضاري، وهذا ربما يأتي من الزوج اذا كان على قيد الحياة، وربما يكون من الابناء، بل ومن المجتمع ومؤسساته، والشخصيات الدينية المتصدية ممن تقع عليهم مسؤولية عندما يجدوا أن هذه المرأة الصالحة او تلك خرجت شباب متعلّم، ومهذب، ومشتمل على صفات الأخلاق والفضيلة.