السابع عشر من شهر ربيع الأول ذكرى المولد النبوي الشريف، وفي نفس اليوم نحتفل ايضاً بذكرى مولد الإمام السادس من أئمة الهدى؛ الامام الصادق، عليه السلام، والأبرز في الشخصيتين العظيمتين؛ الأخلاق العظيمة، حيث كان، صلى الله عليه وآله، المعلّم الأول للأخلاق في العالم، فيما الإمام الصادق، هو استاذ العلماء والعباقرة ممن لهم الفضل الكبير على تقدم العلم وتطوره في العالم، وهو ما يشهد له علماء الغرب حتى اليوم.
الأخلاق والعلم، من أهم الركائز التي قامت على اساسها الحضارة الاسلامية، وتميزت عن سائر الحضارات البشرية، فقد سمعنا بما توصلت اليه مصر القديمة في علم الهندسة والطب والكيمياء، فشيدوا الاهرامات بزواياه الدقيقة والمحيرة للعقول، وتمكنوا من تحنيط الأموات، وحتى معالجة الاسنان! كما سمعنا بما توصلت اليه اليونان القديمة من تقدم في الفكر والمعرفة، حتى بات الغرب يعتمد على ما خلفه افلاطون، و ارسطو، لبلورة منهج للتفكير والاستنتاج في تشييد حضارته القائمة حالياً على عنصر المادة، وما هو ملموس بالحواس حصراً، ولم نشهد في التاريخ البشري حضارة جمعت بين الأخلاق والعلم في معالمها ومنظوماتها الفكرية والتربوية.
معنى أن يكون الاخلاق والعلم خطان متوازيان تسير عليهما قطار الحضارة، أن يكون لدينا عالم في الطب، وهو متواضع، وعالم في الفقه وأحكام الدين، وهو حليم، واسع الصدر، بل ويكون الانسان خلوقاً، وفي الوقت ذاته يكون محباً للعلم ويحترم العلماء، بل ويجالسهم ويزاحمهم في المكان، كما جاء في الحديث الشريف
ومعنى أن يكون الاخلاق والعلم خطان متوازيان تسير عليهما قطار الحضارة، أن يكون لدينا عالم في الطب، وهو متواضع، وعالم في الفقه وأحكام الدين، وهو حليم، واسع الصدر، بل ويكون الانسان خلوقاً، وفي الوقت ذاته يكون محباً للعلم ويحترم العلماء، بل ويجالسهم ويزاحمهم في المكان، كما جاء في الحديث الشريف، وفي مرحلة لاحقة، يسعى للتفقه والتعلّم كما أمره نبيه الكريم: “أطلب العلم من المهد الى اللحد”، وكما أمره ايضاً صاحب الذكرى؛ الامام الصادق: “ليت السياط على ظهور اصحابي حتى يتفقهوا في الدين”.
ومنذ عهد الإمام الصادق، وحتى قرون عديدة، كان العلم قرين الاخلاق، والمجتمع العراقي مثالاً؛ وحتى زمن قريب كان لهذا المسار بالغ الأثر على سلامة هذا المجتمع من الأزمات النفسية، والمشاكل الاقتصادية، بل كان ينعم بظلال القيم الاخلاقية مثل؛ الصدق والأمانة والتكافل والتعاون، واليوم إذ نعيش ظواهر اجتماعية طيبة، ابرزها؛ الثقة بين افراد المجتمع، فإنها من الإرث الطيب للماضين من الآباء والاجداد، حتى الأمان للفتيات الذاهبات الى الجامعة اليوم في سيارات الأجرة لوحدهنّ، فهي بديهية بالنسبة لنا، ولكنها مثيرة للدهشة في بلدان أخرى (اسلامية) تعجّ بحوادث التحرّش الجنسي ومضايقة الفتيات، حتى اضطرت بعض البلدان لتأسيس شركة سيارات أجرة خاصة بالنساء، وفي بلاد أخرى نشهد افتتاح صالات لتعليم الفتيات فنون الدفاع عن النفس باتباع الرياضة الصينية (كونغ فو)!
أما في ميدان العلم والمعرفة، فقد كان العراق كوكباً مضيئاً في العالم الاسلامي، بل العالم أجمع بعقوله وعباقرته في علوم الطب والهندسة، واللغة، وايضاً في مجال الفن والأدب، وجلّ هؤلاء تخرجوا من أحضان الأخلاق والآداب، ومن ظلال التواضع والايمان، ولولا الظروف القاهرة التي خلقتها الحكومات العميلة للدوائر المخابراتية، وأاجبرتهم على مغادرة الاوطان، لكانوا بناة أعظم حضارة ودولة متألقة ومتقدمة في العالم الاسلامي ـ على الاقل – إن لم نقل في العالم بأسره، ولابد من الاشارة في هذا السياق، أن معظم هؤلاء العلماء نشأوا في مجتمع يحمل الايمان الراسخ بالنبي الاكرم، والولاء العميق بالأئمة الهداة، ومنهم؛ الامام الصادق، عليه السلام، الذي يعدونه مدعاة للفخر والاعتزاز لهم لفضله الكبير في معظم الاكتشافات الحاصلة في بلاد الغرب.
في ميدان العلم والمعرفة، فقد كان العراق كوكباً مضيئاً في العالم الاسلامي، بل العالم أجمع بعقوله وعباقرته في علوم الطب والهندسة، واللغة، وايضاً في مجال الفن والأدب، وجلّ هؤلاء تخرجوا من أحضان الأخلاق والآداب، ومن ظلال التواضع والايمان
و رغم عواصف العادات والتقاليد الواردة من الشرق والغرب التي أوجدت لنا مظاهر جديدة في الملبس والمأكل والسلوك وحتى التفكير، تبقى الشريحة الأكبر هي التي تحمل ذلك الإرث العظيم، فهي التي تضخ الاخلاق والآداب للطفل الصغير، وتعلمه أحكام الدين، وهي التي تحذر من قطع سبيل المعروف ـ كما هو الدارج لدينا- والتواصي بالخير والمحبة والألفة في السوق، والمدرسة، والجامعة، وسائر مراكز العمل، وحتى في الشارع، وهذا ليس من المبالغة في شيء، لأن الظواهر الشاذة والتصرفات السيئة من هذا او ذاك، رغم قلتها فهي تنتشر وتضخم وتقدم بمساعدة مواقع “التواصل اللااجتماعي” فتخلق صورة سوداء بشعة عن الواقع، والغاية الاساس؛ سرقة هذا الإرث من هذا الجيل، او فصله عنه، او التشكيك فيه، حتى يكون الحالة الشاذة طبيعية، ومن منهج وثقافة المجتمع، بينما الخطان المتوازيان (الاخلاق والعلم) فان القطار عليه عاطل متوقف وقد تراكم عليه الصدأ والتراب، ولا يصلح للزمن الحاضر.
أن نكون خلوقين كما أرادنا نبينا الكريم، صلى الله عليه وآله، وأن نكون علماء كما اراد لنا إمامنا الذي ننتسب اليه (الجعفرية) الإمام جعفر الصادق، عليه السلام، لهي مسؤولية شرعية وأخلاقية وحضارية لنا، فبمقدار ما نوسع من مساحة الاخلاق في حياتنا اليومية، ونكرسها في ثقافتنا ومنظومتنا التربوية، وايضاً؛ نهتم بالعلم والتعليم بالشكل الذي أوصانا به الامام الصادق ومن قبل؛ رسول الله، نكون نحن الرابحين، كما ربح المجتمع الاسلامي الاول في المدينة بما لامس من آثار الاخلاق النبوية على حياته، فساد البر والإحسان والتعاون والتعاطف والتواصي.
وكما ربح آلاف التلاميذ وتحولوا الى علماء كبار، بل تحوّل بعضهم الى أئمة لمذاهب دينية مستقلة، وهذه بحد ذاتها تمثل علامة فارقة في تاريخ الاديان، أن يتخرج على يد إمام في دين ما، أئمة آخرون يؤسسون مذاهب يشرّعون من خلالها بما يعتقدون ويتصورون! ولم يصدر من الإمام الصادق، أي موقف إزاء ابو حنيفة –مثلاً- او ان يطرده من مجالسه العلمية، رغم ما كان يصدر منه تشكيك، واستخفاف. وهكذا سائر التلاميذ، فكان منهجه النبوي أن يفتح أبواب العلم للجميع، تبقى مسؤولية المتعلم أمام الله، وامام مجتمعه، وما يفعل بعلمه؟ هل يجرده من الاخلاق ويبعه الى التجار والساسة، أم يدمجه بالاخلاق ليكون قطعة واحدة تسهم في خدمة الانسانية وتقدم الحياة؟