غالبية الناس ـ إن لم نقل جميعهم – يشكون من قصور في إنجاز الاعمال، سواءً؛ في الدوائر الحكومية، او عند محلات الصيانة والتصليح، او حتى المحال التجارية، علماً أن الناس الذين نتحدث عنهم هم من بين هؤلاء المنتشرين في الاسواق والمراكز التجارية والدوائر الحكومية، فالموظف الحكومي ـ مثلاً- في غرفته، يرسم التوقيع ويختم على المعاملات الرسمية، سيقف بعد ساعات عند فرن الصمون، او عند باب مصلح انابيب الماء، او التمديدات الكهربائية، او الاجهزة المنزلية، فضلاً عن باعة الخضار والفاكهة واللحوم.
ثمة اسباب عديدة يبحثها الناس انفسهم، او من هم في مستوى العلماء والخبراء، ويقفوا عند نقطة واحدة تقريباً، وهي؛ الرؤية المادية الى الحياة، فالجميع يريد الكسب السريع والمريح، وهذا يبدو أمراً غريزياً، والقرآن الكريم كشف عن هذه الحقيقة الانسانية بأن: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً}، فالكثير ينظرون الى المال قبل ان ينظروا الى أي شيء آخر في الحياة.
بيد أن المهم كيفية التعامل مع هذه الحقيقة، هل نقرّ بها ونجعلها الميزان في تعاملاتنا وسلوكنا، كما هو الحال في غريزة الجنس ـ مثلاً – او حب الرئاسة والسيادة والخلود في الحياة؟
-
لنوسّع الرؤية
الرؤية المادية التي يتحدث عنها الجميع ليست السبب الوحيد والرئيس في ظاهرة عدم الاتقان، او حتى ظواهر الغشّ والتدليس والفساد في اوساط المجتمع والدولة ايضاً، بل هي السبب في حجب الرؤية المتكاملة إزاء الاشياء في الحياة، مما ينمي تصورات ذهنية مثل؛ “الصدفة” أو “الحظ”، وعندما تقول لشخص من اصحاب الاعمال غير المتقنة بأن “هناك يوم عيسر للحساب يوم القيامة”، ربما سيبدي بعض التأييد بإيماءة رأسه، بينما هو في قرارة نفسه يرى في القائل سذاجة عقله وبساطة تفكيره، وانه بعيد عن “الشطارة”! واذا انفتح باب النقاش حول موضوع كهذا، ستأتي الاسئلة واحدة تلو الأخرى؛ أين الحساب؟ وأين العقاب؟ والمثير للطرفة شيوع مقولة: “ومن خرج من قبره مفشوخاً” ـ باللهجة العراقية وتعني مضروباً على رأسه -!
من أجل تحريك افراد المجتمع عن دوائرهم الخاصة، ألغى الاسلام جميع اشكال العمل الفردي، و أي تصرف او سلوك بعيد عن روح الجماعة، ثم وَسَمَ العمل بقيمة الصلاح، وإلا فان البشرية تعجّ بمختلف الاعمال والنشاطات المنتجة ذات القيمة المالية العالية بفضل التصدير والاستهلاك، إنما المهم في تغيير واقع المجتمع، هوية العمل وآثار
الإيمان بالغيب يحلّ هذه المعضلة النفسية والفكرية لدى الانسان، فاذا آمن مَن في السوق وفي الدوائر الحكومية ـ ولو بنسبة معينة – بأن هنالك حساب وكتاب وعقاب، على افعال مثل؛ الكذب، والغش، والتزوير، والتدليس وغيرها، فان سلوكه وتفكيره ومجمل تعاملاته، ليس فقط ستكون مستقيمة وصالحة، وإنما سيحقق هو مصلحته الشخصية ومصلحة افراد المجتمع الآخرين في آن.
وبالرغم من أنه “من الصعب على الانسان أن يؤمن بما وراء الاشياء من الحقائق المباشرة التي يراها، فهو محتاج لرؤية زارع الحقل، او باني البنايات الشاهقة، او مكتشف الطرق لتتولد عنده المعرفة”، فان الوعي بالحقائق يساعده على “الايمان بالغيب من خلال ايمانه بالشهود، بأن يؤمن بالصانع من خلال ما صَنع، ويؤمن بالمهندس من خلال خططه، وبالزارع من خلال زرعه”، (معالم الفكر الرسالي المسؤول- المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي).
الايمان بالغيب يفتح الطريق أمام الايمان بفاعلية القيم الاخلاقية والانسانية التي جاء بها الاسلام، وأكد عليها الرسول الأكرم، والأئمة الهداة، صلوات الله عليهم، خلال سيرة حياتهم، فالصدق، والأمانة، والإيثار، والشكر، ليست اشياء ملموسة مثل المال والعقار والوظيفة المرموقة، إنما تندرج ضمن المنظومة الغيبية
والايمان بالغيب يفتح الطريق أمام الايمان بفاعلية القيم الاخلاقية والانسانية التي جاء بها الاسلام، وأكد عليها الرسول الأكرم، والأئمة الهداة، صلوات الله عليهم، خلال سيرة حياتهم، فالصدق، والأمانة، والإيثار، والشكر، ليست اشياء ملموسة مثل المال والعقار والوظيفة المرموقة، إنما تندرج ضمن المنظومة الغيبية، فالذي لا يؤمن بالغيب، كما يدعونا القرآن الكريم صراحة، فإن من الصعب عليه استيعاب أو فهم الحديث الشريف: “النجاة في الصدق”، في حين يسود الاعتقاد لدى الغالبية أن الصدق ربما يؤدي بصاحبه الى المتاعب والخسران.
هنا يمكن القول إن الذين يعيشون في “دائرتهم المغلقة” بظنهم أنهم يوفرون أحسن ظروف العيش لهم شخصياً ولزوجاتهم وابنائهم، ولا شأن لهم بالآخرين، يكون أقرب من غيرهم من حافة “التجسيم” التي يسير عليها المتصوفة وأهل العرفان ممن يجدون انفسهم في غنىً عن الآخرين، فيكفي أنهم بلغوا مرتبة لا بأس بها من التديّن والعلم والفهم، وهو ما أشار إليه المرجع المدرسي في كتابه المشار اليه في سياق الحديث عن فكرة التصوّف وانعكاساتها على السلوك والثقافة، بأن “التجسيم ناشئ من حالة التوقف عند الظواهر دون السعي لجعلها طريقاً الى الحقائق، لذا عجز هؤلاء ـ دعاة التجسيم- عن الايمان بإله ليس بجسم، وزعموا ان كل شيء موجود لابد ان يكون جسماً، ويتحرك ويصعد وينزل”!
-
العمل الصالح يصلح الفساد
عندما يجري الحديث عن الفساد في بلادنا ـ ومنها العراق ـ لا يبقى فرد في المجتمع إلا ويدلو بدوله مندداً بهذه الظاهرة المشينة والداء الوبيل، بل يعد نفسه من ضحاياه، ولكن! عندما نأتي الى التطبيقات العملية للعلاج لانجد أحداً في الساحة، و مردّ ذلك الى أن كلاً يتحدث من الدائرة التي يقف فيها، لذا تكثر التفسيرات لأي قضية، كما تكثر الحلول باشكالها المتعددة.
ومن أجل تحريك افراد المجتمع عن دوائرهم الخاصة، ألغى الاسلام جميع اشكال العمل الفردي، و أي تصرف او سلوك بعيد عن روح الجماعة، ثم وَسَمَ العمل بقيمة الصلاح، وإلا فان البشرية تعجّ بمختلف الاعمال والنشاطات المنتجة ذات القيمة المالية العالية بفضل التصدير والاستهلاك، إنما المهم في تغيير واقع المجتمع، هوية العمل وآثاره.
وعندما نتحدث بلوعة وحرقة عن الفساد وكيف انه ينخر في كيان المجتمع، وفي كيان الدولة ايضاً، فانما نتحدث عن سلوكيات وعادات وثقافات نابعة من الافراد، فبمقدار صلاح هؤلاء الافراد باعمالهم البعيدة عن الفساد والانحراف، نكون قد كافحنا الفساد وتخلصنا من آثاره المدمرة.
وهذا يعني أننا بحاجة ماسّة وشديدة لكل فرصة عمل صالح تصدر من أي شخص، حتى وإن طفلاً، او شيخاً كبيراً على قارعة الطريق واقتناصها ثم تنميتها في التربة الاجتماعية التي هي بالاساس صالحة لنمو هكذا اعمال، مثل؛ إماطة الأذى عن الطريق، او مساعدة فقير، او الحفاظ على البيئة ورعاية النظافة وغيرها من الاعمال البسيطة في ظاهرها، والعظيمة في جوهرها وآثارها.