{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}
إذا عاد كل واحد منا الى فطرته الأصلية يجد فيها حب الفضائل، وكره الرذائل، فنحن نحب الصدق، ونكره الكذب، ويسعى كل إنسان سعيا فطريا الى أن يكون صادقا، ويحاول أن يتجنب الكذب لما فيه من مخالفة لنزعة وجدانية متأصلة في ذات الإنسان.
كذلك فالإنسان يحب العدالة وينشدها لنفسه وللآخرين، في المقابل يكره الظلم، ويحاول أن لا يظلم أحداً، ويكره أن يَظلمه أحد، كذلك مفردة العبادة فإنها متأصلة في ذات الإنسان وكيانه الوجودي، فهي غريزة فطرية، كما عبر عنها القرآن الكريم: (فأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا).
وأبسط الأدلة على أن العبادة فطرية عند الإنسان، هو وجود التاريخ العبادي منذ أن وجد الإنسان على وجه هذه البسطية، كان يبحث له عن معبود يعبده، فهناك من عبد الشمس، وآخرون عبدوا القمر، والنجم، والأصنام..
لكن العبادة الحقيقة التي لو ترك البشر لاختيارها دون المؤثرات الخارجية، لوجدت فطرته السليمة، تقوده الى عباد الله تعالى، فهو الأحق بالعبودية، دون سائر الآلهة المزيفة، ففي عبادته ـ جل شأنه ـ التكامل والسمو الذي يسعى الإنسان للحصول عليه.
“فما هي الغاية الأسمى لخلق الجن والإنس؟ الخليقة سخِّرت للإنسان، الشمس والقمر، والسحاب والرياح، والسهل والجبل، والأنعام والطيور والأسماك و ..، كلها مسخرات للإنسان. أو لا نتفكر هل الممكن أن تكون خلقة البشر بلا هدف؟
كل شيء يخدم هدفا، بل لكل جزيئة من جزيئات وجود كل شيء غاية. أفيمكن ألا تكون لوجود الإنسان- سيد مخلوقات كوكبنا- أية غاية؟!
أو يتخذ رب السماوات والأرض من الخلق لعبا- سبحانه- وهو الغني الحميد، والعليم الحكيم؟!
لنتفكّر: هل خلق أي عضو من أعضاء أجسادنا عبثا، حتى ولو كانت قطعة من المصران، أو غدة صغيرة، أو حتى خلية واحدة، وإذا كان الجواب بالنفي حسب كل معلومات الطب والفسلجة، فكيف يكون مجمل خلق الإنسان بلا هدف؟!
علينا أن نولي الجانب العبادي الروحي إهتماما، لما له من تـأثير كبيرا ومباشر على حياة الفرد والجتمع، فالإنسان الذي يؤدي الصلاة على حقيقتها، فستكون هذه الصلاة علاجا للفحشاء والمنكر، كما صرحت بذلك الآيات الكريمة. وكذا الحال في سائر العبادات
فما هو الهدف إذن؟
أو يكفي أن نجعل الهدف الطعام والشراب. دعنا نستنطق عقولنا، ووجدان قلوبنا؟! أو نقتنع من أنفسنا أن نأكل ونشرب ونتمتع. أو لأنا نجد فراغا كبيرا لا بد أن نملأه بغير اللذات العاجلة.
إننا نسعى جميعا نحو العلم والفضيلة، ونعطي لهما قيمة أسمى من قيمة الثروة والقوة، ونتساءل: ما هي أعلى درجات العلم؟ أوَلَيست معرفة الله الذي نعرف به حقيقة أنفسنا، والواقع المحيط بنا. فمن دون معرفة الله تبقى كل الأسئلة حائرة.
كذلك أسمى درجات الفضيلة تقوى الله، وابتغاء مرضاته، والقرب منه.
وتتلخص معرفة الله وتقواه في كلمة العبادة، التي يجعلها القرآن الكريم غاية خلقة البشر فيقول الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون)”. (المرجع المدرسي؛ من هدى القرآن، ج9، ص: 434).
-
عبادة الله جوهر التكامل الإنساني
يتعرض الإنسان في حياته الى عدد من المشاكل والمحن، والتي يطلق عليها القرآن الكريم ( الإبتلاءات)، فكل إنسان مبتلى، فهناك ابتلاءات داخلية وخارجية، فالابتلاءات الداخلية، هي الضعف والوهن، وسوء الخُلُق والخوف..، أما الابتلاءات الخارجية فتتمثل بالمشاكل التي يواجهها في حياته، كضيق المعيشة، وفقد الأحبة، وانتشار الأمراض والأوبئة..
وهذه الابتلاءات تشكّل حَجَرَ عثرةٍ في طريق الإنسان ـ إذا ما تجاوزها ـ في سيره التكاملي الى الله، فكانت عبادة الله تعالى، هي السبيل الأمثل لرقي الفرد وتكامله، وهذا ما تصرّح بعض آيات سورة المعارج؛ يقول الله تعالى: {ِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلاَّ الْمُصَلِّينَ}.
“قيل: “الهلع شدة الحرص، وقلة الصبر”، وقيل: “الهلوع الضجور”
{1}، وفي البصائر: “أي البخل والحرص، أو الخوف وقلق القلب، واضطرابه من كل صوت وحدوث أمر”
{2}. والذي يبدو أن أصل الهلع هو الخوف، فالهلوع يخاف عند الشر فيجزع، ويخاف عند الخير من نفاذه وانتقاله إلى غيره من يديه فيمنع، وهي الصفة التي تفقد الإنسان توازنه وثباته أمام الظروف والعوامل والحوادث المحيطة. ويبقى بيان القرآن لمعنى الهلع أجلى وأبلغ من بيان كل مفسر وأديب حيث يقول تعالى: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً} فإذا به يصبح طعمة لحالات الخوف النفسية، فيفقد توازنه النفسي والفكري والسلوكي، إلى حد الهزيمة واليأس. و {الشَّرُّ} الذي تقصده الآية شامل لكل الحوادث السلبية معنوية ومادية، فالخسارة الاقتصادية شر، وفقدان الأحبة شر، والمرض شر، وهكذا.
ولو أننا حققنا في حوادث الانتحار والحالات النفسية في العالم فسنجد أن معظمها عائد إلى صفة الهلع (الجزع) عند الإنسان. ويقول الله: (مَسَّهُ) لأن المس أدنى ما يصيب الإنسان من الشر أو الخير. {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} والسبب حبه المفرط لذاته، وشح النفس الذي يجعله يريد الخير لنفسه فقط، {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ}.
وحق ما جاء في الرواية: “مَا فَتَحَ الله عَلَى عَبْدٍ بَاباً مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا إِلَّا فَتَحَ الله عَلَيْهِ مِنَ الْحِرْصِ مِثْلَهُ”
{3}، وفي الآية بصيرة:
الأولى: إن المتتبع لكلمة الإنسان في استخدام القرآن يجدها ترد غالباً عند الحديث عن الصفات السلبية فيه، قال تعالى:
– {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً}. (النساء: 28).
– {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ}. (هود: 9).
– {إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}. (إبراهيم: 34).
– {وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا}. (الإسراء: 11).
– {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}. (الكهف: 54).
– {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولًا}. (الأحزاب: 72).” ( المرجع المدرسي؛ من هدى القرآن، ج11، ص: 231).
فهذه الحالات السلبية يمكن علاجها بالعبادة كما صرحت بذلك الآية الكريمة من سورة المعارج، فقد أكدت أن كل إنسان هلوع وجزوع بطبعه وذاته، لكنها استثنت حالة خاصة وهي: {إِلاَّ الْمُصَلِّينَ}، والصلاة جزء مهم و أساسي في العبادات التي تقرب الى الله، وذات الوقت، فهي تخرج الإنسان من هلعه، وشحه وبخله، وتربّي صاحبها على الفضيلة، والتربية السليمة، لأن الله تعالى يقول في آية أخرى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر}.
فكما أن الصلاة تعالج وتقضي على أمور سلبية في حياة الإنسان، فهي تبعد صاحبها عن الفحشاء والمنكر، وتعد جزء من منظومة عبادية متكاملة، فكما أن للصلاة هذا الدور، فإن الممارسات العبادية الأخرى لها دور أيضا في صقل شخصية الإنسان، كالدعاء، والصيام، والزكاة، وزيارة قبور الأولياء والصالحين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
-
صفات عباد الرحمن
وردت في سورة الفرقان صفات خاصة لعباد الرحمن، وبها يتميزون عن غيرهم، وبها يَعرف الإنسان مَن هم عباد الرحمن، ومن هم عباد الشيطان، فكما أنها ميزة لثلة من المؤمنين، فإنها أيضا معيارا ومقياساً يُعرف بها عباد الرحمن.
تتجسد هذه الخصال والصفات في التالي:
1ـ التواضع؛ {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنا}، فالمؤمن يمشي على الأرض بتواضع، لأن مشية التبختر من صفات المختالين والمتكبرين، جاء في الحديث في تفسير الآية عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: “يَمْشِي بِسَجِيَّتِهِ الَّتِي جُبِلَ عَلَيْهَا لَا يَتَكَلَّفُ وَلَا يَتَبَخْتَرُ”.
2ـ الرفق؛ {وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاما}. لا يَسْلم المؤمن من كلام الجهال في المجتمع، ولهذا فإنه عليه قبال هذا أن يكن لهم السلام في قلبه، لأن أفعالهم الجاهلة تنم عن عدم العلم والمعرفة، ولهذا لا يأخذ الإنسان المؤمن موقفاً عنيفا تجاههم.
3ـ قيام الليل؛ {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاما}، وهذه من تجليات عباد الرحمن، أنهم من قوّام الليل، وفي خطبة الإمام علي، عليه السلام، التي يصف فيها المتقين يقول: “أما الليل فصافون أقدامهم..”
4ـ التقوى من النار؛ {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّم}.
5ـ الاقتصاد في المعيشة؛ {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاما}.
إن الممارسات العبادية المختلفة، كالصلاة والصيام الزكاة..، لها الدور الكبير في بناء الشخصية الإنسانية، وإبعادها عن تأثيرات المادة، التي اصبحت اليوم، مرض العصر
ثم تتسلسل الآيات في باقي صفات عباد الرحمن، فهم الذين لا يقتلون النفس المحرمة، ولا يشهدون الزور، ويمرون على اللغو مرور الكرام.. الى بقية الخصال والصفات التي لابد أن يسعى المؤمن الى تحصليها.
إن الممارسات العبادية المختلفة، كالصلاة والصيام الزكاة..، لها الدور الكبير في بناء الشخصية الإنسانية، وإبعادها عن تأثيرات المادة، التي اصبحت اليوم، مرض العصر، فالجانب الروحي عند الكثير مهمل، وإذا ما تفحصنا عددا من المشاكل في المجتمع، نجد أن الجانب الروحي مبعد تماما، فتنشأ الأمراض النفسية والروحية، التي لا علاج لها إلا عباد الله تعالى.
من هنا فإن علينا أن نولي الجانب العبادي الروحي إهتماما، لما له من تـأثير كبير ومباشر على حياة الفرد والمجتمع، فالإنسان الذي يؤدي الصلاة على حقيقتها، ستكون هذه الصلاة علاجا للفحشاء والمنكر، كما صرحت بذلك الآيات الكريمة. وكذا الحال في سائر العبادات.
وعظمية هي تعاليم هذا الدين وتشريعاته لو تأملنها، كيف أنها مُعدةٌ لصلاح الإنسان وانضاجه الى المستوى المطلوب، واسعاده في الدنيا والآخرة، وبنظرة الى عائلة متدينة تعيش تعاليم الإسلام فكرا وسلوكا، ونظرة أخرى الى عائلة يعمها الإنحراف والإبتعاد عن التعاليم الدينية، تجد الفارق الكبير في المخرجات والنتائج، فالبيت الذي يتلى فيه القرآن، ليس كالذي يعلو فيه صوت الغناء.