ما يزال الأطباء المختصين بالامراض النفسية، او ما يُعرفون “بالأطباء النفسانيين” يواجهون مشكلة عدم تفاعل المجتمع مع تخصصهم الذي حصلوا عليه بالدراسة والبحث وبذل الجهود المضنية في الجامعة، وفي ظنهم أنهم سيدخلون ميدان العمل في هذا المجال خدمة لمجتمعهم، كما يفعل الشيء نفسه طبيب العيون، وطبيب الجهاز الهضمي، وطبيب الكسور، وغيرها من التخصصات المرضية المتعلقة ببدن الانسان.
ويعتقد المختصون في هذا المجال الطبي أن ثمة إصابات في الجانب النفسي يعاني منها البعض، وتبقى خافية خشية الافصاح عنها حتى لا يوسم صاحبه بالجنون! كون المرض النفسي يفهمه المجتمع على أنه اختلال عقلي، بينما الفارق واضح بين الحالتين، فالاول: علمٌ يبحث في موضوع السلوك الفردي، وخلفياته وآثاراه، بين الثاني: فانه يبحث في الجهاز العصبي ودوره في خلق حالة جديدة بسبب عوامل او ظروف معينة يفقد معه القدرة على إظهار المشاعر والافكار بصورة معتدلة ومتوازنة، مثل الحزن او الفرح، و الشدّة أواللين، والهدوة أو الاضطراب، ومن حيث الواقع فان كل مجنون يحمل معه مشكلة نفسية كقاعدة وعلّة لحالته المرضية، ولكن ليس بالضرورة أن يكون كل من يعاني من مشكلة نفسية هو مجنون.
ارتكب الفلاسفة خطأ كبيراً في بحوثهم المتسفيضة عن كُنه الانسان، وعلّة وجوده في الحياة، عندما لم يصدقوا بتعايش الخير والشر في النفس البشرية
ولعدم اجماع واتفاق بين العلماء والفلاسفة على تفسير المشكلة النفسية عند الانسان، من غابر الزمان والى اليوم، نرى اليوم تفاقم هذه المشكلة داخل كيان المجتمع، بدءاً بالأسرة، وحتى المحيط الاجتماعي، وفي ميحط الدراسة والعمل وفي كل مكان، نلاحظ معظم المشاكل والازمات في عناوينها الكبيرة، مثل؛ الأمن، والاقتصاد، والسياسة، تعود بجذورها الى مشاكل غير محلولة تحولت الى عقد خطيرة أسقطت أنماطاً سيئة من السلوك الفردي المؤثر على المحيط الاجتماعي، بل وعلى مساحة واسعة بحجم بلد بأكمله احياناً.
-
صحة التشخيص نصف العلاج
ارتكب الفلاسفة خطأ كبيراً في بحوثهم المتسفيضة عن كُنه الانسان، وعلّة وجوده في الحياة، عندما لم يصدقوا بتعايش الخير والشر في النفس البشرية، “فالنفس التي تتبع الخير لا يمكن ان تكون مصدراً للشر، وكذلك العكس”، (بحوث في القرآن الكريم، المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي)، في حين ان حقائق الحياة تكشف لكل ذي لُب إن مسيرة الانسان نحو التحضّر والرقي قائمة على سكتي (ثنائية) الخير والشر، الفضيلة والرذيلة، والشهوة مقابل التعفف، وهكذا سائر الثنائيات المتباينة، وقد أدرك العلماء في وقت متأخر هذه الحقيقة، ولكن تلكأوا في الوسائل والأدوات للاستفادة من هذه الحقيقة، فهي بالنسبة لهم مثل جوهرة براقة ورائعة يتطلعون اليها من بعيد ولا تصل اليها أيديهم، لأن علماء الغرب، وتحديداً علماء المدرسة المادية في العالم كله، يفتقدون لآليات التربية والأخلاق والآداب والعقوبات المحفزة للجانب الايجابي وتغليبه على الجانب السلبي في النفس البشرية.
وبالرغم من معاناة معظم شعوب العالم من الازمات النفسية دون علاج نهائي وقاطع، نلاحظ أن “بناء العلوم الحديثة والمرتبطة بمعرفة الانسان، قائمة على نظرية دارون في أصالة الشر في طبيعة الانسان، والذي جعل الكفاح من أجل الوجود الوسيلة الوحيدة لرقي الانسان”.
بالمقابل تطرّف أخرون ـ بغية ايجاد الحل – وقالوا بعدم وجود أي شر أصيل في الانسان، و”أن الطبيعة الانسانية غير مصابة بأية خطيئة أصلية غير الخطيئة الاصلية التي ارتكبها المجتمع ضدها، ومثّل هذه النظرية: روسو، وكانت، وغوته، وآخرون”.
هذه الرؤية غير المتوازنة وغير الواقعية للانسان دفعت بالناس في العالم، في الاتجاه الاول؛ نحو اليأس من الإصلاح الى حد الانتحار، فيما حمّل الاتجاه الثاني التربية كل أخطاء الإنسان وبرأته من كل أفعاله دون النظر الى العوامل المضادة لديه وقدراته في التغيير الذاتي.
-
وللقرآن الكريم رأي في الموضوع
بما أننا اتفقنا في البداية على أن علم النفس يبحث في موضوع السلوك الفردي، فان القرآن الكريم والاسلام كدين وشريعة أولى هذا الموضوع أهيمة بالغة، بما يمكن القول معه، انه ذو مدخلية في مسألة العقيدة والايمان، فالإنسان في الإسلام متكامل الابعاد، متسلّح بالعقل ليقوده الى ما هو خير وصواب، فالنفس التي تمثل مركز قيادة تحرك الانسان قولاً، وفعلاً وعملاً، مفتوحة على الاحتمالين: الخير والشر، وجاء التعبير القرآني في غاية الدقة: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا * كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا}، هنا يكشف القرآن الكريم في وقت مبكر، ومن الناحية التاريخية في القرن السادس الميلادي، حيث كان الفكر البشري ما يزال يعيش الحيرة القاتلة في هذا المسار المظلم، أن الانسان مختار وله إرادة قوية وصلبة بشرط تفعيلها فيتمكن من تحقيق النجاح الأكبر (الفلاح) ويتجنب السقوط (الخيبة)، وفي هذه الآيات الكريمة من سورة الشمس، تأكيد على قدرة النفس للتخلص من السيئات والانحرافات، كما لها القدرة ايضاً على ركوب الفجور وارتكاب السيئات، ولذا فان مبدأ “العقوبة في الاسلام نابعة من التخيير، ولولا اعتقادنا بامكانية ثمود على التمرد على سنن الكون لما حسُنت العقوبة ولا حتى الإدانة”.
بيَّن الإسلام على لسان النبي الأكرم، والأئمة المعصومين، وما جاء به الأولياء الصالحين، السبل الكفيلة للتزكية والتهذيب في اطار برامج وطقوس، بل وممارسات عملية تواكب حياة الانسان، تنمي فيه صفات العفّة، والورع، والتقوى، الى جانب الصفات الاخلاقية
وفي مرحلة لاحقة بين الإسلام على لسان النبي الأكرم، والأئمة المعصومين، وما جاء به الأولياء الصالحين، السبل الكفيلة للتزكية والتهذيب في اطار برامج وطقوس، بل وممارسات عملية تواكب حياة الانسان، تنمي فيه صفات العفّة، والورع، والتقوى، الى جانب الصفات الاخلاقية، وقد أغنى العلماء والباحثون في شأن البناء الروحي والاخلاقي، المكتبة الاسلامية بمؤلفات راقية، وفي خطوة متقدمة اخرى نحو نشر هذه الثقافة الدينية، برع علماء آخرون في الطرح المباشر بإلقاء محاضرات بموضوعات معمّقة في تهذيب النفس، وبناء الشخصية وفق الموازين الاخلاقية، ولعل الأبرز في هذا الميدان، آية الله السيد محمد رضا الشيرازي –طاب ثراه- وخطباء وعلماء آخرون.
هذه القاعدة الروحية الصلبة هي التي تساعد على حلّ أي عارضة نفسية تنشأ من سوء التعامل بين الافراد، او بين الافراد وبين الاشياء والقضايا في الحياة، فالانسان الذي يحمل ملكة الورع والتقوى والعفّة، يمكنه تجاوز منغّصات وعقبات في طريق العمل، أو الدراسة، او الزواج، وسائر العلاقات البينية، بل وحتى النظر الى مفاهيم وقيم مثل؛ الأمانة والصدق، والتعاون، والتكافل، فالانسان الصحيح النفس، تكون نظرته سليمة وشفافة إزائها، ويتعامل معها بايجابية وتفاعل، والعكس بالعكس قطعاً، لذا نجد عدم جدوائية الدعوات والتحفيزات من الواقع الخارجي للتفاعل مع هذه القيم لدى البعض –ولا نقول الجميع- لأن هذا البعض هو في داخله لم يتلمس أثراً لها في نفسه، فكيف يقدمها للآخرين و”فاقد الشيء لا يعطيه”.
وحتى لا نخيب القارئ في الاجابة عن السؤال المعنون للمقال؛ “هل نحتاج الى طبيب نفسي” لحل المشاكل النفسية لبعض الافراد؟
الجواب: بلى؛ نحتاج بشدّة للأخصائيين في علم النفس للمجتمع وليس للافراد، وبعبارة أدقّ؛ نحن بأمسّ الحاجة لعلماء النفس الاجتماعي الذي يبحث عن العلاقة بين الفرد والجماعة، والمواقف المتبادلة، وبما أن ثمة أقوال على “أن علم النفس الاجتماعي نشأ في أحضان الفلسفة”، فان معظم رؤى المفكرين والفلاسفة الغربيين المعاصرين والقدامى حول الانسان والمجتمع تنظوي في اطار “علم النفس الاجتماعي”، وهذا يضعنا أمام مسؤولية عظيمة وخطيرة بأن نعيد النظر الى مناهج علم النفس الاجتماعي في جامعاتنا تستقي رؤاها وافكارها من مصدر لا تشوبه شائبة، وفوق كل المصادر والتجارب البشرية، إنه؛ القرآن الكريم، وأيضاً؛ سيرة المعصومين، عليهم السلام، وطبيعة علاقتهم بالمجتمع، وطريقة معالجتهم للظواهر الاجتماعية والعادات والتقاليد وتقويمها وتصحيحها بما يوافق الفطرة ويساعد على تحقيق الحياة الهانئة والسعيدة.