وصلني مؤخراً كتاب صغير الحجم كبير الفائدة، خطه يراع جناب السيد المرجع الديني والمفكر الإسلامي المبدع سماحة السيد محمد تقي المدرسي – دام عزه – باسلوبه الشيّق وطريقته الحضارية وأفكاره الإيمانية.
-
الحوزة والجامعة
ومن أشد ما تعرضت له الحوزات العلمية في عصرنا هذا هو تقاطع الجامعة لها في بعض الموارد، حتى كادت أن تكون نقيضاً لها، فهما كالخطين المتوازيين اللذين لا يلتقيان في هذه الحياة، كل ذلك، بسبب ابتعاد الأمة عن دينها وإبعاد رجال الدين عن أمتهم، حتى خال البعض أن الحوزة ورجالها تمثلان واجهة للتخلف، أما الجامعة وطلابها فهما واجهة للحضارة والتقدم، هكذا رسموا لنا الصورة، وهكذا حاولوا أن يظهروها فيما بيننا.
لذا ينبري سماحة السيد المرجع المدرسي لمعالجة هذه الإشكالية العويصة التي قسمت المجتمع وقصمت ظهره بتخندق كل منهما مقابل الآخر، علماً أن المسالة ليست بهذه الكيفية، بقدر ما هي نتاج غربي خالص، ونتيجة جاءت من القرون الوسطى للصراع الذي عاشه علماء الغرب مع الكنيسة المتخلفة وعدائها لكل اشكال العلم والمعرفة، الى جانب منهج القمع والتسلّط التي مارسها القساوسة في غابر الزمان.
-
تحديد المشكلة
سماحة المرجع المدرسي يحدد المشكلة بكلمات تستند إلى الآيات الكريمة هي غاية في الاختصار ولكنها قمة في الدقة، يقول: (هناك ثلاثة محددات للفكر العلماني الذي هو في الأساس قاعدة الجامعات:
1- استبدلوا مقام الله سبحانه بـ(الدهر)أو (الطبيعة) فقال قائلهم: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ}، (سورة الجاثية: 24)
2- إنهم نسوا الآخرة وحددوا كل فكرهم وسلوكهم في هذه الحياة فعاشوا في عمى وقال عنهم الرب سبحانه: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ}، (سورة النمل: 66)
3- إنهم عاشوا الحياة ناقصاً حيث اعترفوا بنصف كيانهم وجهلوا أو نسوا الجانب الإيماني(الروحي) الذي يشكل النصف الأهم فقال عنهم الرب سبحانه: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}، (سورة الحجر: 3)
أما الحوزات العلمية المباركة، والدراسات الدينية فيها، فسماحته يصفهم قائلاً:
«إنهم عاشوا في اطار النصف الأهم، وضيعوا النصف الآخر؛ عاشوا الغيب ونسوا الشهود، نسوا الدنيا بما فيها من وسيلة لبلوغ الآخرة»، وكأن الله لم يقل عن المؤمنين كيف يدعون ربهم:
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، (سورة البقرة: 201)
-
الحل الأمثل
ونتوجه لسماحة السيد المرجع ونسأله عن حل هذه المعضلة التي استحكمت فينا وكادت تفتت مجتمعنا الإسلامي كله، لاسيما المجتمعات الإيمانية رغم قوتها الداخلية، فيقول:
«الحل الأمثل لهذا التناقض الحاد هو أن نحوله إلى تكامل عميق، بأن يكتمل منهج الجامعات بامتداد من الدهر إلى مقام السماء والإيمان بالله – تعالى – وبالآخرة والحساب، ثم العيش في الحياة الدنيا، للحياة وللدين ايضاً، حيث يقول الرب سبحانه:
{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ}، (سورة القصص: 77)
وهكذا الحوزات تتكامل بالاستحواذ على علوم أهل الأرض وجعلها في خدمة العباد».
فالنظرة التي يتعامل بها المرجع المدرسي للمسألة العويصة بأن ينظر إليها بعين سليمة وفاحصة، وهذا أولى خطوات التشخيص الصحيح، فالمنطق السليم يقول لك: يجب أن يقتنع المريض أنه مريض، ثم تبحث عن عوارض المرض، وأسبابه، لتصل إلى التشخيص الصحيح، ثم تصف العلاج والدواء المناسب للمرض ولحالة المريض العامة.
فسماحته يقول: «ان هناك مشكلة تتمثل في التعارض الحاد بين الحوزة العلمية والجامعة، ليخلص إلى أن النظرة يجب أن تكون تكاملية لا تفاضلية أو تناقضية لأننا أبناء مجتمع واحد، ودين واحد، وكتاب واحد، ورسول واحد، فلا تناقض بيننا ولا تعارض فكري بين الحوزة والجامعة»، إذ إن نصوص القرآن تزاوج بين الدنيا والآخرة، وبين المادي والروحي، ولسنا كغيرنا الذي تقول أدبياته:
(دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر).
فالحوزة يجب أن تتكامل مع الجامعة وتأخذ منها علومها العصرية، والجامعة عليها أن تسترشد بالحوزة وتأخذ منها علومها الروحية وثقافتها الإيمانية، وبذلك تُحل المشكلة من جذرها وتعود الأمة لتتكامل وتبني حضارتها المادية والمعنوية، وتسير إلى الله كلاً في سبيله؛ فعدد الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق كما يقولون.
ولك أن تسأل سماحة السيد المرجع عن السبيل لتحقيق ذلك؟
يقول مجيباً:
«هذا الحل بحاجة إلى تغيير جدي وجوهري في مناهج الدراسة – في كلا الطرفين الحوزة الشريفة، والجامعة المنيفة – ويضرب لنا مثالاً جميلاً ورائعاً ويقول:
إذا كانت الأمة الإسلامية تتعرف على مناهج الغرب في التعليم ثم تُدخل في الحوزات العلمية السُبل التعليمية للقراءة والكتابة، ودروس الرياضيات والكيمياء والفيزياء والجغرافيا وما إليها، فإنه في المقابل ينبغي لرياض الأطفال والمدارس الابتدائية الحديثة أن تتبنى في منهجها القيم والتعاليم الدينية، وتبني أبناءها على أسس دينية متينة، ثم تتكامل الدراسة عبر كلا المنهجين على أساس المعادلة التالية: الدين قيم، والعلم وسيلة؛ والدين أهداف روحية سامية، والعلم مناهج مادية دقيقة.
ويكون مثل ذلك: مثل عالم دين يركب سيارة حديثة للوصول إلى الجامع» (1)
وبهذه الصورة الحضارية، وبهذه الكلمات البسيطة يحل جناب السيد المرجع المدرسي هذه المعضلة التي استفحلت في مجتمعاتنا الإسلامية، فالحل بسيط وممكن، ولكنه شاق ومتعب، يحتاج إلى زمن قد يطول ويقصر حسب استجابة المجتمع لهذه المتغيرات التي تهدف إلى تغييرات جوهرية فيه.
فتكامل المناهج الدراسة بين الحوزة والجامعة كما يحدث الآن في أكثر من بلد إسلامي، سيعطي النتائج المرجوة منه بإذن الله ولقد لمسنا النتائج من الآن، فأنا شخصياً أعرف الكثير من طلاب الجامعات يدرسون في الحوزة، وكثير من طلاب الحوزة يتابعون دراساتهم الجامعية حتى نالوا الشهادات العالية بجدارة وقوة، لأنهم استفادوا من روح الحوزة ومنهجها وعمقها في دراساتهم الجامعية، فأبدعوا لاسيما في العلوم الإنسانية، مثل السياسة والاقتصاد والاجتماع والإدارة وعلم النفس.
كما أننا نرى ونسمع عن دكاترة ومهندسين درسوا في الحوزة العلمية الشريفة ووصلوا إلى درجة الفقاهة وتصدوا إلى المرجعية الدينية ولم يمنعهم تخصصهم في الهندسة من الوصول إلى قمة الهرم في الحوزة الشريفة.
فالتكامل هو سبيل لاحب لجعل الجامعة حوزة في روحانيتها وإيمانها، وجعل الحوزة تعيش الحياة وواقعها الملموس، وبذلك تترشد الجامعة، وتعيش الحوزة، والكل يرفلون في ظل الإسلام العظيم، والقرآن الحكيم، وسيرة رسوله الكريم وأهل بيته الميامين (صلوات الله عليهم أجمعين).
- باحث إسلامي من سوريا
———————————— - (1) الحوزات العلمية/ ص 65 – 73/ بتصرف.