ما خفّت لوعة الإمام الحسين، عليه السلام، مع وصول أبيه إلى كرسي الخلافة، ولكنها تحولت فيه إلى غبطة داخلية لم يجد لها في نفسه إلا التفسير اللذيذ، وإن تكن غبطة متولدة من هلع ـ وهل للهلع في النفس أن يغزل قميصا من طمأنينة؟ لقد تمثل له أن جده، صلى الله عليه وآله، الآن يغمض عينيه في الإغفاءة القريرةـ وها هي رغبته الكبيرة يحققها التنفيذ، ولما يُنقل بعد جثمانه الطاهر إلى مقرّه المشبع بنوره منه. إن أباه بالذات، بعد أن يحمله بذراعيه ويكيفيه بمثواه ـ سيتوجه تواً الى الكرسي المعد له، فيجلس ويتابع تسيير الشؤون الكبيرة من دون أن ينقطع خيط واحد لا من سداها ولا من لحمتها. هنيئا للأمة العظيمة لا يتركها مؤلفها وراعيها لحظة واحدة، لا في العراء الفاتر، ولا في هدأة السكون ـ بل في العهدة المستمرة، تغذيها لواعج النفس المطهرة تطهيراً، ويتدبرها الإعداد الموزون بالرسالة التي هي حدود الله في الإنسان، وتحديد الأمة بالإنسان.
لقد ذابت كل فسحة ضيقة من بال الإمام الحسين، عليه السلام، فلا أبو بكر يتوكأ على عصاه خلف كرسي الخلافة، ولا سبيل لأي واحد آخر يُدعى عمر بن الخطاب يتخبأ تحت قوائم الكرسي باتنظار هبوط دغشة الليل، ولا أحد من بني عثمان يحرق البيت بفتيلة السراج العتيق، ولا جذع من بني حرب يتسرب إليه اسم معاوية فيسرق الشام مع الغوطة ويغرقهما في عبه. إن الأمة وحدها هي المنزهة بين يدي أبيه منذ الساعة الأولى من هدأة الفجر في نجر الفجر.
لقد تهيأ كل ذلك في بال ومخيلة الإمام الحسين، عليه السلام، هذه اللحظة التي تم فيها وصول أبيه الى الحكم ـ فالأمة التي هي جدّه في مهمته الرسالية، تناولت الآن محورها واستمرت في عملية البث ـ هكذا تراءى للإمام الحسين، المنطبع انطباعا مطلقا بجده، وبرسالة جده، والمؤمن إيمانا مطلقا بالأمة التي هي تعبير مطلق عن جده، صلى الله عليه وآله، وقيمة جده في الوجود الإنساني الرائع ـ من هنا إن كل ما كان يتحضر من اجل خدمة الأمة ورفع سويتهاـ كان يحرك لهفة الإمام الحسين، ويلهب شوقه في الوجود، ويحيي فيه استحضارا بالغ الخشوع لجده الذي يحيا أبدا في الرسالة التي لا تخلو إلا في خلود الأمة التي عنوانه الأبهى.
إنها الحقيقة في التطور النفسي ـ الروحي الذي كانت تربته المعاناة عند الإمام الحسين، عليه السلام، مع كل مرحلة من مراحل عمره بالتدرج العقلي، إلى الفهم والإدراك والتفتح الذهني ـ لقد كان واقع الأحداث على الأرض يوسع له الاختبار الملم، ويكسب طاقاته الفكرية ـ النفسية عمقا فلسلفياـ وجوديا، راح يغرق فيه غرقا ذاتيا محفوفا بفضاء آخر، كل صفاته من التحديد أنه جو من التأمل المتحفر النائم أبداً في كل خلية من الخلايا المنطوية بها حقيقة ذاته.
من هذا القبيل كان انتهاؤه إلى الاقتناع بأن الرسالة التي حققت أمة هي الأمة ذاتها في جوهرها الكوني ـ الإنساني، ومن الحيف أن تخيب هذه الأمة، وإلا فإن الرسالة هي المعطلة في مؤداها الأصيل! ـ ولكن مخيلة الإمام الحسين، عليه السلام، شغفت بأن تتلهى الآن بأن وصول أبيه إلى الحكم هو في خطه الاستمراري، ولم يشب بأي انقطاع ـ مع أن وصوله إلى الحكم هو الوصول الهزيل، بعد مرور ثلاثين سنة من غياب، وانقطاع أبعدَ الخط عن استمراره الضابط!
ليت الحكم وصل إلى عهد الإمام علي، عليه السلام، عندما كان يتمنطق بسيفه (ذي الفقار) ـ لقد قصفت القبيلة سيف علي بعد أن أبعدوه خمسا وعشرين حولا عن متابعة الجهاد ـ ولما عادت إليه الساحة كان قد أدلهم الليل بالعكر المشؤوم ـ أمة الأمة، فهي التي تئن الآن وهي تستدعيه لتقديم الغوث، فما أحوجه إلى عشرة سيوف يهزها دفعة واحدة في وجود هؤلاء القوم، وخلف كل واحد منهم قبائل تنادي: “يا للجاهلية في ثارات العرب”.
كم سيفا قصف المستعان به في صدر طلحة والزبير في معركة الجمل، بقيادة عائشة بنت أبي بكر التيمي؟ وكم كلفته سيوف مقصوفة، معارك صفين بقيادة ذلك الذي وصف بأدهى الدهاة ـ معاويةـ كسرى العرب؟ وكم أرهقته القبليّة المجندة بقيادة عمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد بن الملحق بأبيه، ابن ابي سفيان، وأخيه معاوية ـ المكحلين بغبار فراش كانت تتقلب عليه امرأة اسمها (سمية)؟! ـ وكم أضنته حياكة القمصان المصبوغة بالزعفران، حملها، مع كل أنوالها العتيقة الى الشام، بشير النعمان؟ ـ وكم أدمت قلبه وشلّت من همته وأعصابه، عنجهية أبي موسى الأشعري التي كانت لقاحاً لورم أصفر تزنرت به بطولة مغشوشة، شقت عصا الطاعة، وضربت بها في معارك النهروان؟! ـ وكم صعقته ساعات الحزن وهو يغرق في تأملاته المليئة بالعفة، والصدق ونقاوة الوجدان، حتى غافله ـ وهو غائض مستجم بها ـ وغدا آخر علمه أبو لؤلؤة كيف يضرب بالسيف المسموم صدر المصلي في باحة المسجدَ!
إنها الحقيقة الصارمة يجابهها الآن الإمام الحسين، عليه السلام ـ لقد غاب أبوه، عليه السلام، من تحت نظره وبقي عظيما كبيرا ماثلا في مدى يصيرته ـ لقد أخذ عنه ما أخذه عن جده، صلى الله عليه وآله، إلا أن الأخذ هنا كان أطول في مداه، وكان مكوراً بمعاناة ما زادته فهما حتى زينته شعورا بأن رسالة جده العظيم هي بالحاجة القصوى إلى أنداد من طينة أبيه حتى تعمر الأمة ويستقطبها الوعي المهذب الى تحقيق ذاتها الإنسانية الصامدة في صدر الحياة؟
يا للمدرسة في أقنومها الموحد، بسطها جده محددة بعلي ـ ويا للحظ أخيه الإمام الحسن، عليه السلام، إلى بساطه الأبيض، يروق لي أن أتبين لون المعاناة التي راحت تغرق فيها كآبة الإمام الحسين، عليه السلام، بعد مقتل أبيه الإمام ـ هل هي الحزن المألوف طعمه في لحظة الموت، ومفارقة الأحباب لأعز الأحباب؟ أم انها مزيج آخر، يتولد في النفس من الإفرازات الأخرى التي يؤلفها الشوق الحميم في تلك النفس، ويطبعها به على تخصيص وتمييز؟
ما أسرعني إلى أن أجيب نفسي بنفسي: منذ أن امتلأ الإمام الحسين، عليه السلام، بروعة الإدراك، وبالتمام التمام، منذ أن أدرك أن في تربيته الملونة لغزاً مختوما بأفخم الاختام ـ بدأت تشع على نفسه روائع التكوين ـ منذ هاتيك اللحظات، ونفسه كالصفحة البيضاء، تنهال عليها الأزاميل بالحفر البليغ، ومنذ أن أدرك أنه مدموج بجده عنصرا من عناصر الصيانة لرسالة هي وحدها بُلْغَةُ الإنسان، وهي وحدها سياج الأمة وتكييفها ضمانة لوجود الإنسان ـ توسعت حدود نفسه لاستيعاب المهمة الوسيعة، وعمقت بها الآفاق بقدر ما لها من آفاق عميقة وجليلة.
فيما بعد ـ عندما راح يدرك واقع الأحداث على الأرض، وكيف تمت حياكتها وإخراجها، كأنها مسرحية لبست الغباء وتبدت بالهزل، والكذب والتهريج، لتنتهي بمأساة ما كانت ضحيتها ـ فقط ـ قيمة إنسانية فذّة طلع بها رجل اسمه علي بن أبي طالب، بل كانت ضحيتها أمة برمتها، تحملت أجيالا طويلة من التردي والإنحطاط، حتى وهبها الله رجلا منها، سكب لها من نبوة الروح قالبا جديدا صاغها به ودفعها قدما إلى السلالم.
لقد تعب في بناء المسرحية المؤلمة عمر بن الخطاب في اللحظة التي غفلت بها عين الرسول، صلى الله عليه وآله، عن عملية الزجر والنهي عن تحريك الجمر في وادي الشياطين ـ ولقد تم تمثيل المسرحية التي أتقن الرقض على خشبتها عثمان بن عفان في مسجد المدينة، ومعاوية بن أبي سفيان في غوطة الشام. أية عقدة لذيذة تألفت بها المسرحية ونامت عليها؟ ولكنها لم تكن عقدة يتمجد بها الفن، بل كانت حقدا ذلت به الأمة في مداها الطويل من عمرها المهدور، ونعمت بالعز والمجد والكرامة، في اللحظة التي جعلها نبيها العظيم تتحرر منه ـ أما العقدة المبنية بحذق ودهاء فهي التي راحت تتكشف عنها الأيام تنفيذا لمبدأ صرح عنه مؤلف المسرحية عندما قدمها لبعض المشاهدين. ـ لا تلتقي النبوة والرئاسة في بيت واحد ـ أما التفسير الجلي للذين اعتنقوا المبدأ، فهو السعي الحثيث للقضاء على كل من هم أهل البيت عليهم السلام ـ وهكذا يتم اجتثاث الجرثومة التي تطالب بتوحيد النبوة والرئاسة في أهل البيت.
لقد ابتدأت اللعبة كأنها زحام وصولي إلى كرسي مشيخة، وانتهت الى صراع آخر فيه كل القصد للاقتلاع والإبادة ـ ولقد كانت الهواجس تشتد ويشتد معها التحسب وأخذ الحيطة، إلى أن انقلبت عند أهل البيت حسّا بخطر مدى هم في كل لحظة. لقد أبعد أهل البيت وكل من يمت إليهم بصلة عن أي مركز من المراكز الإدارية في دولة الحكم، وليس هذا وكفى، بل إن الاضطهاد المباشر راح يطال الجميع دون أية هوادة ـ ومن يقول: “إن مقتل الإمام الآن ـ بسيف ابن مجلم ـ ليس مدفوعا بذات الرغبة وذات الإيحاء؟
عجيبة غريبة هي الأساليب التي اعتمدوها، واستعملوها، وتفننوا بإخراجها في ساحة الصراع ـ إن التنوع فيها كان يضيّع الفئة المضطهدة في تمتين الحيطة والتزام التحسب، لأن زمام المبادرات كان دائما بأيديهم، وهو يكون على أقواه مع المستقوي بالسلطان وكل مقدرات الناس في كفيّه، وكل نيّة الشر، والغدر والبهتان، هي المبيتة في صدره.
في هذه اللحظة النازفة بالحزن والمرارة ـ كانت تتفتح في نفس الإمام الحسين، عليه السلام، كآبة، أوسع ما فيها أنها أغرقته في تأمل لا شفة له ولا لسان ـ إنه الحزين الكئيب، ليس مطلقا على أبيه الذي غاب مثلما غاب جده، وغابت أمة ـ بل على القضية التي هي الرسالة، والتي هي الأمة، والتي هي الموئل الكبير الذي يرد الغائبين العظام الى كل واحة هم فجروا ماءها، وأحيوها، وخلدوها في مدارها الإنساني الرائع المنتسب إليهم، والمضموم بهم إلى حقيقة خلود الذكر، وخلود القيمة في استمرار مجتمع الإنسان.
سيكون لأخيه الإمام الحسن، عليه السلام، أن يتناول الخط بعملية الغوث ـ أما الحسين عليه السلام، فإنه الواجف المنتظر، وهو غارق في تأمله الصامت ـ أ يكون الترقب الآن عنصراً آخر في معاناته التي لم تنفجر بعد؟!
———————————-
- مقتبس من كتاب ـ الإمام الحسين في حلة البرفير ـ للكاتب سليمان كتاني.