أدب

الخلافة القبَلية وموقف الحسين منها؟* (6)

بانتقال الخلافة ـ وهي الآن بمفهوم الحسين ـ أبوَّة يتناولها كل واحد بالدور عن جده، صلى الله عليه وآله، الذي كان أبُ الجميع ـ والتي هي، بقناعته الراسخة، من حق أبيه علي، عليه السلام، ولا تنتقل إلا عنه الى من هو في الخط الذي رسمته أبوَّة جده الشاملة. أجل ـ بانتقال الخلافة هذه المقلوبة عن أبوّة صحيحة المقصد والمعنىـ الى عمر بن الخطاب ـ لم تتوسع ذهنية الإمام الحسين عليه، بل تعمقت فيها المعاناة، وهي تفسر ذاتها في شعوره وتأمله الصامتَين ـ لقد كان يراقب معاناة أبيه، وهو صامت صابر، وراح يصمت مثله ويصبر ـ أما حواره الأخير مع أبيه حول انتقال الأبوة إلى أبي بكر، فإنه فهم منه أنّ النخوة القبلية، لا الوصية النبوية، هي التي جرَّدت أباه من أبوة كبيرة خصَّه بها جده، صلى الله عليه وآله، لضم المجتمع كله الى صدره الكبير ـ ولقد فهم أن الإجحاف طال أباه على يدي أبي بكر، وها أنه لا يزال متماديا على أقسى وأدهى مع هذا المدعو عمر بن الخطاب!

 

بعد سنتين وعدة أشهر ـ كان جده قد أغمض عينيه عن المسجد، كان عمرالإمام الحسين، عليه السلام ـ عند انتقال الدور الى ابن الخطاب ـ يدور حول عشر من السنين، ولكن الجو الذي رَبِيَ فيه، والأحداث القاسية التي ذرَّت غبارها في هذا الجو، هزته في صميمه، وجعلت السنوات القاصرة في عمر الإمام الحسين، عليه السلام، واسعة الفهم، نبيهة الذهن، وواسعة النفس تحت معاناة عميقة التفتح، وحاضرة التأثر، وشديدة التفتيش عن ماهيّة الأحداث وارتباطاتها بموحياتها. بالأمس كانت له أربعة أحضان يتبرع كل حضن منها بتوسيع الحب والدلال عليه، أما الآن، وقد خسر حضنين كانا كل طفولته، السعيدة، وكل فرحة في الدنيا، وبقي له حضنان راحت تزرع الاحداث فيهما همّاً ونكداً أصابه كل ثقل منهما في صميمه! أيكون جده، صلى الله عليه وآله، وهو نبي الأمة، وحامل الرسالة، وجامع الحق، وأبو صبيان كل الجزيرة ـ مستحقا كل هذا الهم والنكد، وهذا هو عقاب الجاحدين الكافرين؟!

 

يا للحوار الآن يدور بين الإمام الحسين، عليه السلام، الرازح مثل هذا الثقل من المعاناة، وبين أبيه علي، عليه السلام، المصغي إليه بكل شغاف روحه ـ وسأله الإمام الحسين عليه السلام:

أبي! إني لا أزال أبحث مع نفسي، ولكنني بحاجة إليك حتى تشرح لي: كيف أوصل أبو بكر الخلافى الى عمر؟

الإمام علي: ـ لم تصل الخلافة الى أبي بكر إلا عن طريق عمر، بتفاهم ضمني عند عمر، معناه: إذا صحت التجربة فأبو بكرهو الخليفة الأول ـ ثم يردَّها إليه إذا شعر بدنو الأجل ـ وهكذا صحَّت المحاولة ـ وها هو عمر خليفة بدل أبيك، وبعد جدك على المسلمين.

الإمام الحسين: ـ واضح ذلك ـ ولكن ـ لو لم تصح التجربة؟

الإمام علي: ـ لكانوا اعتمدوا عدة طرق سواها ـ يوفر نجاح كل واحدة منها شرط واحد منها شرط واحد، وهو إبعاد أهل البيت، عليه السلام، عن خلافة ربَّ البيت!

الإمام الحسين: ـ ومن هم القبائل الذين يؤازرون عمر؟

الإمام علي: ـ لا قبل يؤازرون عمر، بل القبيلة هي التي آزرته.

الإمام الحسين: ـ ومن هم القبائل؟ وما تكون نسبة القبيلة إليهم؟

الإمام علي: ـ القبائل هم نحن ـ إنهم العرب ـ إنهم الجزيرة ـ إنهم الأمة الكريمة في تراثها المتجسدة بجدك العظيم ـ إنهم التاريخ البعيد فوق الأرض الممتدة بالحياة إلى كل هذه الاصقاع التي لا تزال ـ كما كنا ـ نتحرك في كل سهولها، وجبالها، وواحاتها، ومفارزها.. ونبني فيها: زرعنا، وضرعنا، ونخيلنا وكرومِنا، وبساتين الخير وحصاد العافية ـ إنهم الأمة فوق أرض الأمة التي جاء بها نبيها الكريم، صلى الله عليه وآله، حتى يمجدها في حضن الحياة، لأنها أمة في ذخر الحياة، وقطب الله فيه الذي صدق في وجود الإنسان.

 

ما توقف، الإمام علي، عليه السلام، قليلا على ثورة صامتة وهادرة في عروقه، حتى نهض يتمشى في صحن الدار، ثم دار بكلّيته نحو الإمام الحسين، عليه السلام، ليتابع جهد نفسه بالقول:

ـ جدك هو العظيم يا بني في تجميع ذاته ليبذلها في سبيل الأمة التي لولاها لما كانت له: لا نبوة، ولا رسالة، ولا حق ينطق به بلسان الإنسان.

أما القَبَليّة التي تطلب تحديدا لمعناها المسحوب من ضلوع الشياطين، فهي التي تفرط مجموع القبائل، وتوزعها كذبا وحقدا وتمويها، يتسربل بها كل هؤلاء الأبالسة الذين يدَّعون أنهم يمشون بأقدام الإنسان، وهم أسنمة للزور والبهتان! لقد جمع جدك المجتمع القبائلي كله في واحد، بعد أن خلصه من الشرك وأسباب الإنفراط لتعود القبيلة فتفرطه الى الضعف والتفسخ والهوان ـ

تلك هي القبلية يا بني ي انتسابها اللعين ومفعولها الناسخ! إن يكن لي الآن أن أغرق في ذلي وانكسافي، فليس لأني أفتش عن كرسي أغتني به وأسود، بل لأني أشاهد بأم العين، أمتي يتجررون بها الى الانخساف، بعد أن بدأت ترفع رأسها بحقيقة الإنسان … الذل يا ابني للإنسان الذي لا تكون له أمة  يرتفع بها الى الحقيقة الإنسانية التي هي أوج السعادة للإنسان  ـ ما عدا ذلك فأية قيمة للثعالب والأرانب والجرذان! وحتى للأرض كلها إن تكن خالية من مجتمع صحيح صامد بقيمة الإنسان؟!

بعد تسع سنين من هذا الحوار الذي نزل في أذن الإمام الحسين عليه السلام، كأنه ذخر النفس في الإباء والصدق والعنفوان، أصبح عمر الإمام الحسين، يدور حول العشرين ـ وجاءت مدية أبي لؤلؤة تغرز في خاصرة ابن الخطاب وجعلته يجهض المجلس الاستشاري السداسي، فإذا بالقبلية الجهيضة يتقصمها من بعده عثمان بن عفان…

——————————

  • مقتبس من كتاب ـ الإمام الحسين في حلة البرفير ـ للكاتب سليمان كتاني.

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا