-
مقدمة فكرية
كم في تاريخنا الإنساني عامَّة والإسلامي خاصَّة من دروس نحن غافلون عنها، ساهون عن بحثها ودراستها وتداولها فيما بيننا، وتعليمها لأجيالنا من هذه المتعطِّشة لتلك الدروس والعِبر في واقعنا المتأزِّم بكل ما فيه من صراع محتدم بيننا وبين أعدائنا الذين تكالبوا وكشَّروا عن أنيابهم وأظهروا نياتهم بكل صلافة ووقاحة يُريدون إبادتنا عن جديد الأرض وقتلنا بكل طريقة ووسيلة ولكن يُريدون ذبحنا على القبلة، وبالطريقة الإسلامية، وذلك بتسليط بعضنا لقتل بعض، وذبحنا بأيدينا وعلى طريقتنا الإسلامية، بالتكبير، والتكفير، كما رأينا وعشنا في هذا العصر الأغبر.
فقد انتشر مقطع فيديو لأحد مستشاري الأمن القومي، في البيت الأبيض، يقول فيه: “الإسلام سرطان خبيث في جسد مليار وسبعمائة مليون إنسان على كوكب الأرض، ويجب استئصاله كما فعلنا مع الشيوعية والنازية، وعلينا أن لا نخاف من هذه الفكرة”.
والمشكلة ليست في عدوِّنا بقدر ما هي فينا نحن المسلمين، وذلك لأننا صدَّقنا عدوِّنا، وكذَّبنا أنفسنا، حيث قالوا لنا: أنتم أعداء بعض، فالسني عدو الشيعي، والشيعة أعداء السنة، والأشاعرة أعداء المعتزلة، والمعتزلة ضد الشيعة، وهؤلاء جميعاً أعداء الصوفية، والصوفية تعاديهم جميعاً، وذلك كله بلعبة قذرة اخترعها الأعداء منذ أن تسلط على الأمة صبيان النار الأموية، من أبناء الشجرة الملعونة في القرآن، فعاثوا في الدِّين والدنيا وفساداً وإفساداً.
ثم نشأت تلك الفرقة الضَّالة التي تُقدِّسُ نفسها وتجعل من نفسها مقياساً حتى لرسول الله صلى الله عليه وآله، حيث ينقل لنا التاريخ موقفاً عجباً من رجل يدَّعي الإسلام يقف على رسول الله حين يوزِّع غنائم حنين يقال له: ذو الخُوَيْصِرة، فَقَالَ: اتَّقِ اللهَ يَا مُحَمَّدُ؛ اعْدِلْ يَا مُحَمَّدُ فَإِنَّكَ لَمْ تَعْدِلْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: “وَيْلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ بَعْدِي إِذَا لَمْ أَعْدِلْ، فَمَنْ يُطِعِ اللهَ إِنْ عَصَيْتُهُ، أَيَأْمَنُنِي عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَلَا تَأْمَنُونِي“، ثم قال رَسُولُ اللهِ فيه: “سَيَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَخْرُجُونَ عَلَى خَيْرِ فِرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ يُحَقِّرُوْنَ صَلَاتُكُمْ فِي جَنْبِ صَلَاتِهِمْ، يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ فَلَا يَتَجَاوَزُ تَرَاقِيَهُمْ، بَيْنَهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ مُخْدَجُ الْيَدَيْنِ إِحْدَى ثَدْيَيْهِ كَأَنَّهَا ثَدْيُ امْرَأَةٍ”، وفي رواية عائشة: “يَقْتُلُهُ خَيْرُ أُمَّتِيْ مِنْ بَعْدِيْ“. (الإمام علي قدوة وأسوة، السيد محمد تقي المدرسي: ص122).
وفي رواية البخاري ومسلم: “إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ“، وفي مسند أحمد قال النبي في ذي الخُوَيْصِرَة: “فَإِنَّهُ سَيَكُونُ لَهُ شِيعَةٌ يَتَعَمَّقُونَ فِي الدِّينِ حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهُ، كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ“.
-
الخوارج هم الدَّاء
هؤلاء هم الدَّاء الوبيل في الأمة الإسلامية، الذين ظهروا فيها في وقت مبكِّر جداً، وراحوا يطعنوا في أسِّ النزاهة، والقداسة، معتمدين على تخميناتهم، وغرورهم بأنفسهم وصلاتهم، وصيامهم، وتلاوتهم للقرآن الحكيم ولم يعلموا قوله صلى الله عليه وآله: “كم من قارئ للقرآن، والقرآن يلعنه“، فهم يلعنهم القرآن لأنهم يتأوَّلونه لمصالحهم، ويُكفِّرون به الأمة الإسلامية قاطبة، فكل مَنْ ليس منهم فهم ضدهم وعدوَّهم، يستحلون دمه، وماله، وعِرضه، كما فعلوا مع الصحابي الجليل الذي ينقل قصته المأساوية سماحة السيد المرجع المدرسي (دام عزه)، ويقول: “لقد كان عبد الله بن خباب من أصحاب رسول الله وكذلك والده خباب بن الأرت كان من أعظم أصحاب الرسول، فمرَّ بهم عبد الله وفي عنقه قرآن، ومعه زوجته الحامل، وكانت في شهرها الأخير، فأخذوه وقالوا له: إن هذا الذي في عنقك يأمرنا بقتلك.
فقال لهم: “أحيوا ما أحياه القرآن، وأميتوا ما أماته”؛ وفيما هم يحاورونه كانت تسقط تمرة من نخلة فيتناولها أحدهم، فيصيحون به حتى يلفظها، ويمرُّ بهم خنزير فيقتله أحدهم، فينهرونه ويقولون: هذا فساد في الأرض.
وعادوا إلى عبد الله بن خباب، وقالوا له: ما تقول في أبي بكر وعمر وعلي قبل التحكيم، وعثمان في الست السنين الأخيرة من خلافته؟. فأثنى عليهم خيرًا.
فقالوا: ما تقول في علي بعد التحكيم والحكومة؟.
فقال: إن عليًّا أعلم بالله، وأشد توقيًا على دينه، وأنفذ بصيرة.
فقالوا: إنك لا تتبع الهدى، بل تتبع الهوى، والرجال على أسمائهم.. ثم جرُّوه إلى شاطئ النهر وذبحوه وجاؤوا بزوجته فبقروا بطنها، وذبحوها مع ولدها إلى جانبه!“. (الإمام علي (ع) قدوة وأسوة، السيد محمد تقي المدرسي: ص121).
عاث الخوارج فسادًا في الأرض وكادت روح القتال المتمردة على القيم تنتشر فيهم وهم أبناء الجزيرة العربية التي لا تزال أرضها تغلي بالدم والثأر والعصبيات الدَّفينة.. ولولا أن الإمام عليه السلام بادر وسار إليهم لَكان يُخشى أن تشمل الفتنة كل أطراف بلاده
ألا تُشبه هذه الكارثة آلاف الكوارث التي سمعناها وربما رأيناها بأمِّ العين في هذا العصر، ألا تُشبه مجزرة القرن في (سبايكر) حيث قتلوا آلاف الشباب بتلك الطريقة البشعة ورموهم في النهر؟
أليس هؤلاء المجرمين أبناء أولئك المتأولين للقرآن؟ فهؤلاء أبناء أولئك فكراً وممارسة، وما قطعان الظلم والظلام التكفيرية الصهيووهابية التي كشفت عن وجهها القبيح بعد كل هذا الاجرام الذي ارتكبته في صفوف هذه الأمة راحت بيديها ورجليها وألقت بنفسها في أحضان بني صهيون، لتُعلن للأمة العربية والإسلامية حقيقة ولائها، وإنتمائها، ودينها الذي ضحكت به على الأمة خلال قرون من الزمن، وجاء اليوم الذي كشفوا أنفسهم وحقيقتهم القذرة على الملئ وأمام العالم.
فالخوارج عندما عسكروا في منطقة بالنهروان مرَّ بهم مسلم ونصراني، فقتلوا المسلم بعد أن عرفوا رأيه حول الإمام علي عليه السلام، وتركوا النصراني قائلين: “لا بدَّ أن نحفظ ذمَّة نبيِّنا”، وكأنَّ الإسلام لم يحقن دماء المسلمين! والواقع: أن تنامي التطرُّف وانحسار الوعي، وتهافت أسس التفكير عند القوم، كان السبب في جرائمهم، كما كان سبب انقراضهم”. (الإمام علي قدوة وأسوة، السيد محمد تقي المدرسي: ص120).
ثم يُعلِّق سماحة السيد المرجع بقوله: “وهكذا عاث الخوارج فسادًا في الأرض وكادت روح القتال المتمردة على القيم تنتشر فيهم وهم أبناء الجزيرة العربية التي لا تزال أرضها تغلي بالدم والثأر والعصبيات الدَّفينة.. ولولا أن الإمام عليه السلام بادر وسار إليهم لَكان يُخشى أن تشمل الفتنة كل أطراف بلاده”.
أليس هذا الذي جرى في العراق حينما غزته قطعان التكفير وراحت تعيث فساداً في البلاد والعباد ولولا تصدي المرجعية المباركة لهم، والافتاء بجهادهم والوقوف البطولي للحوزة الشريفة والشعب العراقي البطل خلف تلك القيادة الحكيمة للمرجعية، وتقديم آلاف الشهداء على مذبح الحرية والكرامة لكان العراق الآن – لا سمح الله – كليبيا أرضٌ محروقة ينعق عليها غُربان الأتراك، والطليان، وإنكلترا وفرنسا والأمريكان، ولكن الأشد والأخطر هم قطعان الصهيووهابية التكفيرية.
-
درس النهروان في الزمان
في الحقيقة التاريخية، والواقعية، وحتى الدينية والفكرية؛ هي أن معركة النهروان كانت حالة شاذة في الفكر والعقيدة والدِّين، سيدهم الشيطان ويستمرون مع الزمان، ويتجددون في كل مكان، وما علينا إلا توخِّي الحذر من الوقوع في شِراكهم الممدود لاصطياد أصحاب الفكر الجامد، والعقيدة المهزوزة، والانتماء القشري، فكم من شابٍّ غرَّرته كلمة وأخرجته من الدِّين الحق؟
ومن عجيب دروس أمير المؤمنين الإمام علي، عليه السلام في هذه المعركة الخاطفة التي وصفها بقوله المعجز: “والله، لا يُقتل منكم عشرة، ولا يَسلم منهم عشرة“، فقُتلوا كما أخبر، وفرح أصحابه بهذا النصر الكبير، فعن الحكم بن عُيينه، قال: لمّا قتل أمير المؤمنين، عليه السّلام، الخوارج يوم النهروان قام إليه رجل، فقال: يا أمير المؤمنين طُوبى لنا إذ شهدنا معك هذا الموقف وقتلنا معك هؤلاء الخوارج.. فقال عليه السّلام: “والذي فلقَ الحَبَّة وبَرأ النَّسَمَةَ، لقد شهدنا في هذا الموقف أناس لم يَخلق اللّه آباءهم ولا أجدادهم بعد“. فقال الرجل: وكيف يشهدنا قوم لم يخلقوا؟ قال: “بلى قوم يكونون في آخر الزمان يشركوننا فيما نحن فيه، ويسلّمون لنا فأولئك شركاؤنا فيما كنّا فيه حقا حقّا“. (المحاسن للبرقي: ج1 ص262).
ألا نكون من هؤلاء الذي يصفهم أمير المؤمنين، عليه السلام في كلامه هذا الذي يُقسم عليه، ونرضى بما فعله فيهم، ونسير على منهاجه في محاربتهم، لأنهم خرجوا من حيث قرن الشيطان ونبغوا من نجد حيث يطلع قرن الشيطان كما أخبرنا الصادق المصدَّق رسول الله، صلى الله عليه وآله، في كثير من الروايات، التي ترويها كتب المسلمين كافة، كما ورد في البخاري ومسلم قوله النبي الأكرم: “سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، أَحْدَاثُ الأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأَحْلاَمِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ البَرِيَّةِ، لاَ يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ، كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ“، وفي مسند أحمد وصحيح ابن حبان قال رسول الله: “يَخْرُجُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإسلام، كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ“.
ألا نكون ممَنْ يرعف بهم الزمان فلما أظفر اللّه الإمام علي، عليه السلام بأصحاب الجمل، قَدْ قَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَدِدْتُ أَنَّ أَخِي فُلاَناً كَانَ شَاهِدَنَا لِيَرَى مَا نَصَرَكَ اَللَّهُ بِهِ عَلَى أَعْدَائِكَ فَقَالَ لَهُ: “أَ هَوَى أَخِيكَ مَعَنَا فَقَالَ نَعَمْ قَالَ فَقَدْ شَهِدَنَا وَلَقَدْ شَهِدَنَا فِي عَسْكَرِنَا هَذَا أَقْوَامٌ فِي أَصْلاَبِ اَلرِّجَالِ وَأَرْحَامِ اَلنِّسَاءِ سَيَرْعَفُ بِهِمُ اَلزَّمَانُ وَيَقْوَى بِهِمُ اَلْإِيمَانُ“. (نهج البلاغة: خطبة12).
جعلنا الله منهم وفيهم ومعه…