بصائر

بإمكان العراق أن يكون نموذجاً صالحاً في العالم

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}…

بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}، (سورة الحشر: 18 20)

عالمنا اليوم يشهد طغيانا في العلم، ونقصانا في الحكمة، وبين العلم والحكمة مسافة وفرق كبيران، فالحكمة تحدد لك الهدف وتبين لك الاتجاه، والعلم يعطيك الوسيلة للاتجاه والمسير الى الهدف، فماذا تنفع قدرتك على المسير ان لم تعرف الهدف ولم تحدد الاتجاه؟، وقد يكون من له علم وليس له حكمة كمن يمشي بسيارة حديثة سريعة ولكن في غير الاتجاه الذي يريده، فلا تزيده سرعة المسير إلاّ بعداً عن هدفه، وهذا هو للاسف واقعنا وواقع العالم اليوم.

العالم اليوم يغتر بعلمه وبما يملك، من صناعته الدقيقة، وتقنياته الجميلة والباهرة، وانجازاته العلمية الهائلة، ولكنه لم يحقق هدفاً من اهدافه في السعادة والسلام، وذلك لأنه يفتقر الى الحكمة، فباتت المخاطر والازمات والآفات تقضّ مضاجع البشرية من اقصاها لأقصاها، ومن امثلتها مخاطر التلوث البيئي، والفقر، وميزانيات التسلح الكبرى، والحروب والارهاب، وفيما مليار انسان يعيشون تحت خط الفقر، فإن نحو 60 شخصا فقط في العالم يملكون نصف ثروات اهل الارض!

ومع كل هذه المشاكل بدأت مشكلة كبيرة اخرى تتعرض لها البشرية اليوم، وسوف تهدد مسيرتها وأمنها اذا استمرت واتسعت، وهي صعود وانتشار الشعبوية، لاسيما في امريكا واوربا، وبشعارات ووعود براقة مضللة وخادعة تستغل جهل الناس وفقرهم وغضبهم ومشاعر الاحباط والغضب، فتعدهم بالازدهار والاكتفاء عبر تطبيق شعارات وسياسات الفصل بين الشعوب والبلدان، ومقاطعة ورفض الآخر، تحت شعارات مثل «أمريكا أولاً»، ونصب العداء للمهاجرين، وحينما تصعد حركات واحزاب وشخصيات من هذا الاتجاه الى الحكم بطريقة او بأخرى فإنها تحطم وتعطل كل القيم التي من المفترض ان تقوم عليها هذه الدولة او تلك، ويقوم عليها العالم، مثل قيمة العدل، وحقوق الانسان، والحرية، والمساواة، والقيم الانسانية الاخرى، ويتم مهاجمة وابعاد كل من يدعو الى هذه القيم، وصولاً الى السياسة الخارجية حيث يتم الاصطدام بالدول والانظمة الاخرى ومهاجمتها، وربما وصولاً الى إشعال الحروب اذا وصلت هذه النزعات الشعبوية للحكم في اكثر من بلد، فتكون بذلك النطفة القذرة للحرب العالمية الثالثة – لا سمح الله -، وفي التاريخ شواهد على ذلك، ومنها ماجرى في الحرب العالمية الثانية، فهذه الفكرة الخبيثة كانت وراء صعود الحزب النازي بقيادة هتلر، الذي جر العالم الى حرب مدمرة قُتل فيها اكثر من 60 مليون انسان.

هذه الفكرة والكلمة الخبيثة (الشعبوية) انتشرت خلال السنوات الاخيرة، وسوف تهدد الأمن العالمي، والاخطر؛ أنها انتشرت في امريكا، وهي اكبر قوة في العالم، بامكاناتها المادية والعسكرية، ونرى اليوم من نتائجها كيف يتم ابتزاز بعض الانظمة والدول بسحب مئات المليارات منها، وفي الاصطدام بدول اخرى، وفرض عقوبات عليها، مثل ايران، والصين، وروسيا وغيرها، فضلا عن صعود احزاب وشخصيات شعبوية في بعض الدول الاوربية، ولاسيما ممن تسمى باليمين المتطرف، لذلك فإن هذه الآفة قد تنتشر في باقي دول العالم وكثير من الناس غافلون عنها.

حين تبتعد البشرية عن ربها وخالقها، وعن دين الله، وعن السنن والقيم الالهية الحقّة، فإن العقاب يأتيها بطرق واشكال مختلفة، ولعل ما اشرنا اليه يأتي ضمن تأويل قوله – سبحانه وتعالى -:

{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ}، (سورة الأنعام: 65).

ولذا نقول: إن البشر بحاجة الى حكمة، فالعلم وحده لا ينفع، فهو يعطيك الوسيلة، والحكمة تعطيك الهدف، والوسيلة حتى لو كانت ناجعة وناجحة ومتميزة، لكنها لا تنفع شيئا حينما لا يكون الهدف صالحا وواضحا ومشروعا.

الله – تعالى – يقول:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}، (سورة الحجرات: 13) وليس لتعاركوا! أو تتخصاموا، بل لتعارفوا ويعترف بعضكم بالآخر، ويقول – سبحانه -:

{وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}، (سورة العصر: 1-3) ويقول – تعالى – في آية اخرى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}، (سورة المائدة: 2) فأين الايمان والصالحات في العالم؟ وأين الحق؟ وأين الصبر؟ و أين التعاون على البرّ والتقوى؟ لماذا تذهب رسالات ووصايا الانبياء والحكماء ادراج الرياح؟

والخطير في الأمر أن هذا الاتجاه (الشعبوية) ينبت وينتشر في اكبر البلاد قوة وتقدماً مادياً، ومن ثم ينتشر الى بلاد اخرى، ويضعون العالم على حافة الحرب. إذن؛ ما هو الحل؛ سواء فيما يتعلق بنا وبأوضاعنا نحن، أو بقية البشرية؟

في هذا نرجع الى كلمة حكيمة وبليغة لنبينا المصطفى، صلى عليه وآله وسلم، حيث يقول لسبطه الامام الحسين، عليه السلام: «مرحباً بك يا أباعبدالله، يا زين السماوات والأرضين»، ثم يقول: «والّذي بعثني بالحقّ نبيّاً، إنّ الحسين في السماء أكبر منه في الأرض، فإنّه لمكتوب عن يمين عرش الله: الحسين مصباحُ هدىً وسفينة نجاة».

فهو، عليه السلام، مصباح هدى وسفينة نجاة، ليس لنا فقط، ولا لإهل الارض فقط، بل وحتى للعوالم الاخرى، لأن هذا مكتوب في ساق العرش، فأين مرقد سيد الشهداء؟ أليس في مدينة كربلاء؟! فأين، ومَن يحمل رايته اليوم؟ إنها الحوزات العلمية والخطباء والعلماء، من موالي اهل البيت، عليهم السلام، والسؤال: هل نحن ندرك هذه الحقيقة؟ حين نزور الامام الحسين، سلام الله عليه، هل نفهم ما الذي نقوم به؟ ومن نزور؟! هل نعرف ان الامام الحسين ليس لي ولك ولنا فقط، بل للعالم كله؟ هذا المصباح أعظم من الشمس، فهل من الصحيح أن الشمس تشرق على مكان دون آخر؟!

لو فهم من ينبغي ان يفهم ، ان الامام الحسين، عليه السلام، ونهضته الربانية والدماء الزاكيات السائلات في ركابه، وكل ما يرتبط به، منقذ العالم من ضياعه ومشاكله، ومن فتنة الشعبوية وغيرها، لأنه، عليه السلام، من اجل البشرية كلها، يُعالجنا من اجل ان يُخرجنا من دائرة وأسر ذواتنا، لأنه قدوتنا في ذلك، للخروج من شحّ الأنفس، والتوجه الى الله -سبحانه وتعالى -: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، (سورة الحشر: 9)، ينقذنا من الضعف والهوان والاستئثار ومن كل ما بنا من علل، وهذا يحتاج منا الى تفكير واستخلاص للبصائر والعبر.

وفي هذا المجال يحتاج منا ان نفكر في بلدنا؛ بلد الامام الحسين، عليه السلام، فالعراق يجب ان يكون تجلياً من تجليات السبط الشهيد، فالشعب العراقي الذي يرفع كل عام رايات الاستجابة لنداء «هل من ناصر ينصرني»، ويقوم بمختلف الشعائر الحسينية، يجب ان نطرح السؤال الآتي: هل أن هذا يترك أثره على السلوك اليومي طيلة أيام السنة؟ وهل ان المسؤولين في هذا البلد اصبحوا حسينيين قلباً وقالباً وعرف كل منهم كيف يعيش في حياته حسينيا مؤمنا نزيها صادقا مضحيا؟

لذا نؤكد دوما على اننا في العراق كما في بقية العالم بحاجة الى حكمة، أن نحدد المسير والاتجاه والهدف، فهذا كتاب الله، وعترة رسول الله، هذا النهج العظيم، وهذه الحوزات العلمية، هل نتركها الى مجموعة قوانين وضعها زيد أو عبيد، والى مجموعة ثقافات مستوردة؟! ان اعداءنا في الخارج والداخل، من صهاينة وغيرهم، عينهم على العراق فقد شغلونا بأنفسنا ومازالوا، وأعانهم الكثير منّا على ذلك – للاسف – لافتقاده للحكمة، فصار بلدنا يتخلف اقتصاديا، وصناعياً، وزراعياً، وتعليمياً، وصحياً، وفي كل شيء، كفاءاتنا تهرب وتذهب تطرق الابواب هنا وهناك، ويعملون لدى الآخرين فيما نشكو ان البلد يفتقر الى الكفاءات.لذلك نؤكد دائما على اننا يجب أن نهتدي بآيات الذِكر الكريم وسيرة وكلمات العترة الطاهرة، بهذا المصباح المنير للهداية، ونلجأ ونركب بسفينة النجاة العظيمة، ألا وهو الامام الحسين، عليه السلام، ونبدأ بذلك من انفسنا في العراق لكي نجعل منه مثلاً وانموذجاً صالحاً في العالم.

عن المؤلف

اترك تعليقا