عَاشُورَاءُ نَهضَةٌ للحَيَاةِ الكَرِيمَةِ لا للمَوتِ [4]
-
مقدمة في الكرامة
من نعم الله سبحانه وتعالى علينا وعلى المؤمنين المقيمين في مدينة قم المقدسة هذا العام أننا كنا على موعد مع سلسلة محاضرات عاشورائية لسماحة العلامة المجاهد السيد هادي المدرسي (حفظه الله ورعاه)، بطريقته الرائعة، وأسلوبه الممتع، الذي يتحدَّث من قلب مفعم بما يتحدَّث به فكيف إذا كان الموسم عاشوراء وهو ابن الحسين عليه السلام سبباً ونسباً، وحباً وفكراً وولايةً، فيكون للحديث طعم آخر.
وكان مما تناوله في الليلة الرابعة من تلك المحاضرات الراقية حديثه عن مسألة عقدتُ العزم أن اكتب لكم عنها دارت طويلاً في ذهني، فجاء بها سماحته، وأضاف عليها نكهته الخاصة، فأحببتُ أن أقتطف بعض ما جاء في تلك المحاضرة.
-
الإنسان مخلوق مكرم
قال الله العظيم في محكم كتابه الكريم: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}. (الإسراء: 70).
يقول سماحة آية الله السيد هادي المدرسي:
كرامة الإنسان أمر لا يمكن التنازل عنه، فالله قد أعطاه هذه الكرامة وجعلها مقدسة.. فلو أُعطي الإنسان كل شيء ولكن سُلبت منه كرامته، فلا قيمة لكل ما أُعطيه، وسيثور لأنه بدون الكرامة لا يستطيع أن يعيش.
لقد علمنا الإمام الحسين عليه السلام أن الكرامة قيمة يجب أن نحصل عليها.
لقد ميَّز الله الإنسان عن الحيوانات بمجموعة من الأمور؛ ومن أهمها حرية الاختيار، وبدون الكرامة لا معنى للاختيار ويصبح بلا أي قيمة.. طبعاً صحيح أن جسم الإنسان ذو قيمة لكن عقله وكرامته هي أعلى قيمة تستحق الحياة والعيش من أجلها.
وقلب الإنسان أيضاً من الأمور المهمة في جسمه، وله دور كبير وقد خلقه الله بشكل عجيب ولكنه بدوره بدون الكرامة يتحول إلى آلة كما هي عند سائر الكائنات الحية.
إن كل ما في الكون مسخَّر لهذا الإنسان وقد رفع الله منزلته، ومكانته، وقدره، بالكرامة، ولكن هذا الإنسان قد يتسافل، ويتنازل عن هذه الرِّفعة، والكرامة، ويُصبح كائناً أقل قيمةً وقدراً من الحيوانات.
لقد أكرم الله الإنسان فبعث له أعظم خلقه وهو النبي محمد، صلى الله عليه وآله، ليهديه بما يعزز قيمة الكرامة فيه، فلا بد أن نعرف كم هي منزلة الإنسان عظيمة بهذه الكرامة. فكل التشريعات التي جعلها الله هي لتكريم وحفظ كرامة الإنسان من العَبَث.
وهكذا فإن ثورة الإمام الحسين عليه السلام، يمكن إن نُسميها بعدَّة أسماء مثل ثورة الإيمان، وثورة العدل، ولكن الاسم الأبرز لكل قصة وقضية كربلاء هو إنها (ثورة الكرامة). والإمام رفع في ثورته شعاران لو حملت أي شعار منهما لاستطعتَ أن تبني حضارة.
الشعار الأول: هيهات منّا الذلة، فبه تستطيع أن تعيش بكرامة، وتبني القواعد الأساسية للحضارة.
الشعار الثاني: فهو والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذَّليل ولا أُقرُّ لكم إقرار العبيد.
وهنا يجب على كل واحد منّا أن يعيش كريماً، وأن الدَّرس الأعظم الذي يجب أن نتعلمه من الحسين هو: أنه عليه السلام كيف عاش كريماً، ومات كريماً، وكيف استطاع أن يبقى مُخلَّداً مدى وأبد الدَّهر كريماً.
ليس المطلوب فقط أن يُدافع الواحد منا عن كرامته الشخصية المحضة، بل من أبسط مبادئ الكرامة الإنسانية؛ هو الدِّفاع عن كرامة كل مظلوم قد تُذِلُّه طاغية من الطغاة وهذه من أسمى قيم الكرامة والتي قدَّم الإمام الحسين عليه السلام، نفسه الزَّكية قرباناً لسلامة دين البشرية.
إن المهمة الأساسية لحفظ الكرامة تكمُن في رفض الذُّل وعدم السكوت على الظلم، لأن إثم السكوت عن الظلم هو المشاركة فيه، والحقيقة إن الله تعالى يُدخل الساكتين عن الحق مدخل الظالمين ويجعلهم على حدٍّ سواء.
إن ربَّ العالمين أكرم الإنسان بالكرامة فلو خسر دنياه في سبيل الحق فهو لن يخسر الأخرة، وسيكون في سجل الصالحين من عباده مع الحسين عليه السلام.
-
الطاغوت لا يقبل الحياد
إن الطغاة لا يقبلون من الناس الحياد، فلا يظن أحدٌ أنه إذا لم يقف مع الحق، والعدل، ونصرة المظلوم، فإن الطاغوت سيقبل بوقوفه على الحياد بل يُريد الطاغوت من العبيد أن يقفوا إلى جانبه على طول خط ظلمه، وغروره، وفساده، ومن ثم يدوس على رأس الخانعين له بل ولا يعتبرهم بشراً أصلاً.
ثورة الإمام الحسين عليه السلام ثورة كرامة، وهي نموذج للبشرية لحفظ، وصيانة حضارتنا الإنسانية والتي يأبى الطغاة إلا الانحدار بها إلى مواقع الانحطاط والرذيلة.
إن معنى أن الإمام هو إمام؛ أي أن نتبعه ونقتدي به، فلو لم نتبع الإمام الحسين عليه السلام، في ثورته فإن الحسين لن يأتي لنا بما ننشده من حضارة إنسانية تصون كرامتنا وتحفظها”.
-
الشهادة كرامة عظيمة
هكذا لخَّص سماحة السيد المدرسي، ثورة الإمام الحسين، وسماها بثورة الكرامة الإنسانية، وذلك لأن سبب وجود هذا الإنسان في هذه الدنيا هي هذه الكرامة، فالحقيقة الواضحة تقول: “بأن الإنسان مخلوق بكرامة، وهو مكرَّمٌ من خالقه تعالى”، ومن كرامته أنزل عليه أعظم منظومة قيمية وتشريعية لتضبط حياته، على أعظم خلقه صلى الله عليه وآله، فأكمل به الدين الذي ابتدأ مع أبينا آدم عليه السلام، واختتم بالحبيب المصطفى، ولكن هذه المنظومة لم تُترك سُدى بعد الرسول الأعظم بل أتمَّ الله تعالى على هذا الخلق بنعمة هي أعظم النعم، وأتمَّ بها كل النِّعم ألا وهي الولاية لأهل البيت الأطهار عليهم السلام، الذين صاروا قيمة عليا في منظومة القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية في هذه الحياة.
والإمام الحسين، عليه السلام ركن أساسي من هذه المنظومة لأنه خامس أصحاب الكساء، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، والذين باهل بهم رسول الله، صلى الله عليه وآله نصارى نجران، والذين مودتهم هي أجر الرسالة الخاتمة، يقول سماحة السيد المرجع المدرسي (حفظه الله): “إن الحسين سيّد الشهداء وإمام المتقين، وقدوة الصالحين، لا في عصره فحسب، وإنما دائماً وأبداً وعبر العصور المتتالية، فقد كان (عليه السلام) يُخاطب الأجيال، ويُخاطبنا، ويُخاطب مَنْ كان قبلنا، ومَنْ سيأتي من بعدنا، ويُخاطب كل ضمير حيّ، وكل قلب معمور بالإيمان.
لقد كان عليه السلام خُلاصة الفضائل، وتطبيقاً حيّاً للقرآن، بل والقرآن الناطق، فنُصرته، لا تقتضي بالضرورة أن نُعاصره، ونعيش معه، بل تعني نُصرة مبادئه، وأهدافه، والقيم التي ثار من أجلها؛ فإن لم نستطع أن ننتصر لشخص أبي عبد الله عليه السلام، والفتية من أهل بيته وأصحابه وأنصاره، فلا بد من أن ننصر تلك المبادئ التي ثار من أجلها، وضحّى في سبيلها، ولذلك نجد المؤمنين عندما يقفون أمام الضَّريح المقدس يردّدون هذا الهتاف القدسي الخالد: “لبيك يا حسين”، وهم يعنون بهذا النداء أنهم إن لم يكونوا حاضرين عند استنصاره، واستغاثته، ولم ينصروه في ذلك اليوم نُصرةً ماديةً، فإنهم سوف ينتصرون للمبادئ والقيم والرسالة التي من أجلها ضحّى، وفي سبيلها بذل أعزّ أبنائه وأنصاره”. (الإمام الحسين (ع) قدوة الصديقين السيد المدرسي: ص150).
ثم يسأل سماحته: “السؤال المهمّ الذي نُريد أن نطرحه في هذا المجال هو: كيف بلغ السبط الشهيد عليه السلام، تلك الدَّرجة العليا، وما هي التربية التي تلقّاها بحيث أصبح مهيّأً لهذه الكرامة الإلهية العظيمة؟
للجواب على ذلك نقول: إنّ الشهادة كرامة عظيمة من الله تعالى للإنسان، لا يُؤتاها إلا مَنْ هيّأ في نفسه أسبابها وعواملها..، ومن المعلوم أن كلمات الإنسان رسول عقله، والتعبير عن شخصيته، ونحن عندما نقرأ أدعية أبي عبد الله الحسين عليه السلام، وخصوصاً قمَّة أدعيته وذروتها جميعاً المتمثلة في دعاء يوم عرفة فإننا سنكتشف شخصيته، وندرك أن هذه الشخصية تتلخص في كلمة واحدة وهي: أنه حبيب الله، فهو، يُخاطب ربه قائلاً: “ماذا وَجَدَ مَنْ فَقَدَكَ، وماذا فَقَدَ مَنْ وَجَدَكَ“؟. (مفاتيح الجنان).
لقد كان عليه السلام يقف الساعات الطوال في صحراء عرفة، ودموعه تجري على خديه دون أن يشعر بالتعب لأنه كان يقف بين يدي حبيبه، وقد كان هذا هو ديدنه حتى في اللحظات الأخيرة من حياته الشريفة، حيث ازدحم عليه ما يقرب من ثلاثين ألفاً كلّهم يُريدون سفك دمه، ومع ذلك فإنه لم يطلب من بارئه أن ينقذه ويُنجِّيه بل كانت كلماته كلمات إنسان عارف بالله تعالى، فكان يقول: “اللهم أنت متعالي المكان، عظيم الجبروت، شديد المحال، غني عن الخلايق، عريض الكبرياء…” (الإمام الحسين (ع) قدوة الصدِّيقين السيد محمد تقي المدرسي: ص 104).
فالحسين إمام مفترض الطاعة، ومعصوم من الخطأ والذَّلل والخطل، فهو ركن من المنظومة الدينية الإسلامية، ولكن له ماناً ومكانة أرادها الله له، وهي قيمة القمة في سلسلة القيم في هذا الدين، وهذه الحياة تلك القيمة: هي قيمة الشهادة، وهذا ما بيَّنه ولده الإمام السجاد أمام الطاغية حيث قال له: “أ بالقتل تُهدّدني!! أما علمتَ بأنّ القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة“.
تلك هي الكرامة العليا التي لن يفقهها إلا مَنْ تشبَّع بنهضة سيد الشهداء عليه السلام حُباً وفداء.