“ولا تحمل على يومك همّ سنتك، كفاك كل يوم ما قُدّر لك فيه”.
أمير المؤمنين، عليه السلام، (وسائل الشيعة، ج7-ص71- باب27).
لا يبرح الكثير يتحدث عن مستقبله، وكيف يجب ان يكون، سواءً في مسيرته الدراسية والعلمية، او المهنية والحصول على فرصة عمل لائقة، او بناء بيت، او الحصول على الزوجة الصالحة، او شراء سيارة فارهة، او الانطلاق في مشروع تجاري، او حتى خيري وانساني، والكثير الكثير من الافكار المتشعبة ذات الابعاد الواسعة في اطار الزمان، وهذا من المؤشرات الايجابية في تفكير الفرد، فهو يعد نفسه بهذه الطريقة من التفكير، انساناً ذكياً وحكيماً، يتميز عمن لا يفكر إلا بيومه، كيف يكسب أجرة عمله؟ ثم ينفقها في المأكل والملبس وتلبية حاجات الأسرة، ويتعرض اصحاب هذا النمط من التفكير بانهم “يدورون في دوامة مفرغة” لا تقدم فيها ولا تطور ولا نمو.
وهذا في جانب كبير منه صحيح، فالعقل يدعو للتفكّر في الأفق البعيد، والبحث عما هو أفضل في قادم الأيام، كما يدعو العقل الى التفكّر في الظواهر الطبيعية، وفي نظام الحياة والكون، فهو من صفات أولوا الألباب ممن ذكرهم القرآن الكريم، بيد أن هذا لا يمنع من التفكر ايضاً في النعم والفرص الآنية الموهوبة من قبل خالق الطبيعة والحياة والكون، فالعالم يعجّ بالحركة يومياً، بدءاً ببني البشر، ومروراً بالطبيعة وما فيها من نبات وحيوان وجبال وبحار، كل هذه المخلوقات تتغذى وتعيش وتنمو من عوامل ثابتة لا تتغير، ولكنها تصنع التغيير يومياً، فالشمس تشرق وتغيب بانتظام منذ ملايين السنين والى ما شاءالله، فقد أشرقت على الفراعنة الطغاة، كما أشرقت على الانبياء والصالحين، وأشرقت على صناع الاسلحة المدمرة التي قتلت عشرات الملايين من البشر، كما هي تشرق ايضاً على الاراضي الخصبة لتطعم مئات الملايين من البشر، وهذا يوضح لنا “فلسفة اللحظة الراهنة” وأهمية استثمارها، “الفرص تمر مر السحاب فاغتنموا فرص الخير”، يقول أمير المؤمنين، عليه السلام، فأي تخلّف او تأخر يعني الخسارة للفرد والدمار للمجتمع والامة.
هنالك الكثير ممن لا يرى في لحظته الراهنة ما هو جدير بالاعتماد عليها لانجاز عمل ما، فهو يتطلع الى البعيد دائماً بحثاً عن الأفضل والاكثر والاكبر، فهو ليس ابن يومه! وليس المكان مكانه! بل ليس المحيطون به بالمستوى المطلوب!
وهنالك الكثير ممن لا يرى في لحظته الراهنة ما هو جدير بالاعتماد عليها لانجاز عمل ما، فهو يتطلع الى البعيد دائماً بحثاً عن الأفضل والاكثر والاكبر، فهو ليس ابن يومه! وليس المكان مكانه! بل ليس المحيطون به بالمستوى المطلوب! ولكنه ليس فقط لا يصل الى تلك الصور الذهنية، بل ربما تنقلب الفرصة الصغيرة والذهبية الى لحظة تعيسة عندما يصطدم بالخيبة وتبخر الآمال، فيما يجد آخرون قد استفادوا واستثمروا مما فيه أيديهم من البسيط، وتقدموا عليه.
المؤمنون في راحة أكثر من غيرهم
اذا فتشنا في القرآن الكريم، وفي النظام الاجتماعي للاسلام لانجد أية اشارة الى شيء اسمه “مستقبل” وضرورة التطلع اليه دائماً، بقدر ما نرى التأكيد على اغتنام الفرص واحترام الزمن واللحظة التي يعيشها الانسان واستثمارها في الجوانب كافة؛ سواءً المادية وما يتعلق بأمور الحياة، أو المعنوية، وما يتعلق بأعمال الخير والبر والاحسان المتصلة بالآخرة.
ومن يتحدث عن المستقبل والأفق البعيد من مبدأ التوسع في الفكر ونبذ الضيق والتحجر وغيرها، عليه أن يتذكر أن الأفق الحقيقي الذي لا حدّ له ولا حصر، هو الرحمة الإلهية التي تسع كل شيء في الحياة الزائلة، “فالمؤمنون لا يثقون بالحياة واستمراريتها فهم يعملون للآخرة كأنهم يموتون غدا، كما يعملون للدنيا كأنهم يعيشون ابداً”. (كيف تربح الحياة- آية الله السيد عباس المدرسي).
أما الآخرون ممن يعدون انفسهم الاكثر ذكاءً فانهم يعملون على اساس أن الحياة خالدة لهم، ولايفكرون بالموت بتصور أن هكذا تفكير مدعاة للكآبة والضعف! لذا نجدهم بعيدون عن الاعتبار بالموت، ولا يعبأون بقوافل الموتى التي تسير بالقرب منهم، بينما نراهم شديدي التعلّق بالأمل الذي يجعلونه جوهر تفكيرهم والطريق الطويل في حياتهم، يجرون خلفه بغية تحقيق مرادهم؛ الأمل بأن أكون طبيباً لامعاً يجني الاموال! والأمل بأن اشتري بيتاً كبيراً فيه حديقة غنّاء، لا تخلص من بيتي الصغير! طبعاً هذا النمط من التفكير يشمل المرأة كما الرجل، فالمرأة لا ترى قيمة لما حولها –مهما كان جيداً ومقبولاً- فانها ترسم الصور الذهنية الكبيرة وتعقد عليها الآمال العريضة، بأن تشتري المزيد من الحُلي الذهبية، والاثاث الراقي الجذاب الذي يبهر سائر النساء، او أن يكون زوجها في هذا المنصب، او يمتلك كذا من الاموال والامتيازات، ويحظى بالوجاهة العالية في المجتمع.
المؤمنون يشعرون بالرضى الدائم عما لديهم في لحظتهم الراهنة، لايمانهم بأن كل هذه اللحظات تمثل نعم كبيرة من الله –تعالى- بل كل نفس وكل حركة لهم من الصباح وحتى المساء، تمثل فرصة جديدة للعمل والانتاج والعطاء
فما هي نتيجة هذا التفكير؟ والى أين يؤدي بالانسان (الرجل والمرأة)؟
العلماء يشيرون الى أمراض نفسية خطيرة تصيب اصحاب الآمال البعيدة والكبيرة، مثل؛ القلق والاضطراب والتشكيك، وهي تتغذى من حالة التحسّر المستمر على ما فات، والوقوف طويلاً بانتظار المستقبل، ومن ثمّ فان حياة مثل هؤلاء لن تكون سوى ساعات ولحظات تعيسة ملؤها الحزن والكآبة وتعكّر المزاج، لانهم لا يستطيعون تصور أنهم يحصلون على يوم جديد مع كل يوم من عمرهم، فيذهب العمر هدراً دونما فائدة، حتى ولو بالراحة والابتسامة للمحيطين في الأسرة والاصدقاء، بينما بامكاننا “أن نتخلص من تسعين بالمئة من قلقنا اذا استطعنا ان نشعر بأن كل يوم يمر علينا هو يوم جديد، وأن كل لحظة في هذا اليوم إنما هي لحظة جديدة”.
أما المؤمنون فانهم يشعرون بالرضى الدائم عما لديهم في لحظتهم الراهنة، لايمانهم بأن كل هذه اللحظات تمثل نعم كبيرة من الله –تعالى- بل كل نفس وكل حركة لهم من الصباح وحتى المساء، تمثل فرصة جديدة للعمل والانتاج والعطاء، فهم لا يملكون شيئاً يحزنون على فقدانه، إنما يتفاؤلون بما عندهم ويصنعون منه اشياء مفيدة مهما كانت متواضعة وبسيطة.
خيط رفيع بين الانتهازية واغتنام اللحظة الراهنة
إن تركيز تفكير الانسان في حياته النظرية والعملية على مبدأ اللحظة الراهنة، ربما يؤدي به الى نسيان الماضي وتجاربه، وايضاً نسيان ما يأتي من قادم الأيام، وما يمكن وصفه بالعواقب، ربما يؤدي بالانسان الى السقوط في “الانتهازية” ومن يسميهم المجتمع بانه “يأكل الخبز بسعر يومه”، فهو يفكر باللحظة التي يعيشها ويعد نفسه “انساناً عملياً”، دون الحاجة الى أطر وضوابط من القيم والمبادئ، فهي بالنسبة اليه قيود من الماضي، كما انه يغضّ نظره عن عواقب أعماله، فهي دائماً صحيحة مهما كانت النتائج! وربما يسوق الحجج والمبررات لهذا النوع من السلوك والتفكير.
بينما اغتنام اللحظة الراهنة والاستفادة من النعم والفرص المتاحة، تجلب الخير والتقدم عندما تكون في سياقها العملي، فيما يبقى المنهج هو الذي يرسم الخطط والبرامج الصحيحة وفق قواعد رصينة لا تؤدي بصاحبها الى السقوط والخسران، فعندما يستثمر الانسان صحته وقوته البدنية فانه يوجهها للعمل والانتاج، سواءً في التجارة، أو في المصانع وسائر المهن الحرة، ولا يوجهها لخدمة مصالح خاصة بعيدة عن الصالح العام كأن يكون عنصراً مسلحاً في مليشيات، او عنصراً منفذاً لصفقات مشبوهة تديرها حيتان الفساد في البلاد التي يقودها ساسة لصوص وفاسدون.
في بلد مثل العراق حيث يعيش فيه الناس، لاسيما شريحة الشباب بكل قدراتهم الذهنية والعضلية، مع فقدان الخطط والمشاريع الاستثمارية لهذه القدرات، فانهم يبقون وحيدين في الساحة لا يدرون ما يصنعون، ولسان حال الجميع: “كل ما لدينا لا يكفي للتغيير، إنما الامر كله بيد الساسة واصحاب المال والسلطة والسلاح”، وهذا الاستنتاج هو الذي يريده الساسة الفاسدون ليدفعوا الناس والشباب لأن يستثمروا ما لديهم، ليس لخدمة انفسهم وعوائلهم ومجتمعهم، وإنما لخدمة مصالح فئوية، وتنفيذاً لاجندات مشبوهة خارج البلاد، فترى اعداد كبيرة من الشباب تعمل في كل مكان، وفي نفس الوقت نشهد في كل مكان الحرمان والتخلف، وأكثر من ذلك؛ استمرار البؤس والمعاناة بين افراد المجتمع العراقي.