عاشوراء نهضة للحياة الكريمة لا للموت (2)
تقديم ولائي
المنطق العقلي والعقلائي، يقول: “بأن الحياة لا يمكن أن تستمر بالفوضى، ولا يمكن أن يستقر شيء في هذه الدنيا بلا محور يدور عليه، لأن الحركة تحكم كل شيء في هذه الدنيا، فالحركة هي الشيء الجوهري في كل المخلوقات، كما الزوجية فيها، وذلك لتدلُّ على الوحدانية للخالق تعالى، والمحرك، أو المسبب، أو العلة الفاعلة في هذا الخلق وهو الله تعالى”.
ومحور هذا الكون هو التوحيد لله تعالى، فالمُقر بالتوحيد ووحدانية الباري تعالى تراه منسجماً مع هذا الكون الذي يُنِيَ على الزوجية ليشهد أن الخالق واحد أحد فرد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وهذه هي الشهادة الأولى في هذه الحياة (أشهد أن لا إله إلا الله)، فهي منبع الدِّين وهو منبع كل خير ونور وبركة في هذه الدنيا.
إنَّ القيادات الشرعية في الأمة والتي تجسد نهج الإمام الحسين عليه السلام، إنما هي الامتداد الحقيقي لخط أبي عبد الله، وخط الشهادة والفداء؛ فإذا عرفتها فتمسَّك بها، ولا يزلزلك عنها الوسواس الخناس، ولا تنتكص عنها خشية الظالمين أو رغبة في دنيا المترفين
ولكن هذه الشهادة لها شروط لقبولها من موجبها سبحانه، ومن تلك الشروط؛ الشهادة الثانية وهي (أشهد أن محمداً رسول الله)، فهي التي تُشكِّل الدعامة الثانية لقيام هذا الكون، وأما الدعامة الأساسية التي هي أساس الشهادتين وشرط لقبولها منا العبد، هي الشهادة الثالثة؛ (أشهد أن علياً ولي الله)، وهذه الشهادة هي التي يجب أن نتعامل معها في حياتنا، ونباشرها في مسيرتنا الاجتماعية في الأمة، وهذا ما بيَّنه الإمام الثامن من أئمة المسلمين، علي بن موسى الرضا، عليه السلام في حديث السلسلة الذهبية المتواتر الذي يقول فيه روحي فداه، كما ورد في كتاب (الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي)، أن علي بن موسى الرضا عليهما السلام لما دخل إلى نيسابور في الرحلة التي خُصَّ فيها بفضيلة الشهادة كان في قبة مستورة بالسقلاط على بغلة شهباء وقد شقَّ نيسابور فعرض له الإمامان الحافظان للأحاديث النبوية والمثابران على السُّنة المحمدية؛ أبو زرعة الرازي، ومحمد بن أسلم الطوسي، ومعهما خلائق لا يُحصون من طلبة العلم، وأهل الأحاديث، وأهل الرواية والدراية، فقالا: “أيها السَّيد الجليل ابن السَّادة الأئمة بحقِّ آبائك الأطهرين وأسلافك الأكرمين إلا ما أريتنا وجهك الميمون المبارك ورويتَ لنا حديثاً عن آبائك عن جدك محمد (صلى الله عليه وآله) نذكرك به”، فاستوقف البغلة وأمر غلمانه بكشف المظلة عن القبَّة وأقرَّ عيون تلك الخلائق برؤية طلعته المباركة فكانت له ذؤابتان على عاتقه والناس كلهم قيامٌ على طبقاتهم ينظرون إليه، وهم ما بين صارخ وباك، ومتمرِّغ في التراب، ومقبِّل لحافر بغلته، وعلا الضجيج فصاح الأئمة والعلماء والفقهاء: “معاشر الناس أسمعوا و عوا وأنصتوا لسماع ما ينفعكم ولا تؤذونا بكثرة صراخكم وبكائكم”، وكان المستملي أبو زرعة ومحمد بن أسلم الطوسي.
فقال علي بن موسى الرضا عليهما السلام: “حدثني أبي موسى الكاظم، عن أبيه جعفر الصادق، عن أبيه محمد الباقر، عن أبيه علي زين العابدين، عن أبيه الحسين شهيد كربلاء، عن أبيه علي بن أبي طالب، أنه قال حدثني حبيبي وقرة عيني رسول الله، قال حدثني جبرائيل، قال: سمعتُ رب العزة سبحانه تعالى يقول: كلمة لا إله إلا الله حصني فمَنْ قالها دخل حصني ومَنْ دخل حصني أمِن عذابي“.
إن الانتصار للقيادة الشرعية والولاية الإلهية لهو الخطوة الأولى في مسيرة النهضة، وإن كل مَنْ يضم صوته إلى صوت الحق يُضيف قوة إلى بنيان الحق، كما أنه يزداد قوة وصلابة
ثم أرخى السَّتر على القبَّة وسار، فعدُّوا أهل المحابر والدَّوي الذين كانوا يكتبون فأنافوا على عشرين ألفا، وفي رواية؛ عُدَّ من المحابر أربعة وعشرون ألفاً سوى الدوي.
وفي رواية الشيخ الصدوق وغيره: أنه عليه السلام بعد أن ذكر الخبر السابق قال: فلما مرَّت الراحلة ناداهم قائلاً: “بشرطها وشروطها وأنا من شروطها“.
فالولاية، والإمامة، والقيادة شرط في قبول كلمة التوحيد، وكذلك كل العقائد الإيمانية، والعبادات الإسلامية، فعن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: “فَرضَ الله على أمتي خمس خصال؛ إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام شهر رمضان، وحج البيت، وولاية عليّ بن أبي طالب والأئمة من ولده(عليهم السلام)، والذي بعثني بالحقِّ لا يقبل الله عز وجل من عبد فريضة من فرائضه إلاّ بولاية عليّ (عليه السلام)، فمَنْ والاه قبل منه سائر الفرائض، ومَنْ لم يوالهِ لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ومأواه جهنم وساءت مصيرا“. (جامع أحاديث الشيعة 1: 429 ح 960، الكافي 1: ص42).
ومن أهم مستلزمات الولاية؛ هي المحبة والطاعة، وإلتزام الحُجَّة، ولهذا ورد عن الإمام الحسين بن علي عليهما السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: “إلزموا مودتنا أهل البيت فانه من لقى الله يوم القيامة وهو يودّنا دخل الجنّة بولايتنا، والذي نفسي بيده لا ينفع عبداً عمله إلاّ بمعرفة حقّنا”. (جامع أحاديث الشيعة 1: 427 ح957).
فالقيادة المحقة هي شرط أساسي لقيام الدولة الإيمانية الحقة، والتي تبني الحضارة الإنسانية الراقية ولكن هذه الأمة أضاعت قيادتها منذ يوم السقيفة المشؤومة، حيث تركوا الأمير واتبعوا الصغير من رجال قريش الذين أوصلوها إلى بني أمية الطلقاء فلم يتركوا محرَّماً إلا ارتكبوه، ولا جريمة إلا نفذوها، وحاولوا جهدهم وجهادهم دفن الإسلام في مهده، فلم يستطيعوا فحرفوه عن جادته ومنهاجه القويم الذي كان يُمثِّله أهل البيت الأطهار عليهم السلام، بإبعاد الأمة عنهم، ومنعها من رواية فضائلهم، وقتل أشياعهم وأتباعهم، ثم لعنهم على المنابر لتنفر الأمة منهم، فكان الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، فتى الإسلام، وبانيه بسيفه لا يُصلي عند أهل الشام، ومعاوية خال المؤمنين، وابن عم رسول الله، صلى الله عليه وآله وكاتب الوحي، وهو الملعون في القرآن، وفي سبعة مواطن من رسول الله لا يستطيع أن يدفعها هو نفسه، حيث قلَبَ حكام بني أُميَّة المفاهيم، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: “وَلُبِسَ الْإِسْلَامُ لُبْسَ الْفَرْوِ مَقْلُوباً“. (نهج البلاغة: خ108).
ويصف أمير المؤمنين سلطة وحكومة بني أمية وفتنتهم بقوله الحق: “أَلَا وَإِنَّ أَخْوَفَ الْفِتَنِ عِنْدِي عَلَيْكُمْ فِتْنَةُ بَنِي أُمَيَّةَ فَإِنَّهَا فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ مُظْلِمَةٌ عَمَّتْ خُطَّتُهَا وَخَصَّتْ بَلِيَّتُهَا وَأَصَابَ الْبَلَاءُ مَنْ أَبْصَرَ فِيهَا وَأَخْطَأَ الْبَلَاءُ مَنْ عَمِيَ عَنْهَا وَأيْمُ اللَّهِ لَتَجِدُنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَكُمْ أَرْبَابَ سُوءٍ بَعْدِي“. (نهج البلاغة: خ93).
فالقيادة أصل أصيل وليس بالدخيل، ولذا علينا البحث عن القيادة المحقَّة في عصر الفتن هذا.
القيادة المعاصرة
في هذا العصر الأغبر، عصر الدَّجل والكذب والتلاعب بكل الحقائق، وفي أيام وموسم الإمام الحسين عليه السلام، السِّبط العظيم، وسيد الشهداء أن نبحث عن تلك القيادة الصَّالحة التي تسير على منهج ومسيرة الإمامة، وتتمسك بنهج الولاية، وتدافع عن دين الأمة وتحمي بيضة الإسلام، ضد كل هذا السَّيل الجارف من المؤامرات من الداخلية المنافقة (كالوهابية التكفيرية)، والخارجية من الاستكبار العالمي متمثلاً (بالصهيونية، والماسونية)، فقد أعلنوها حرباً على الأمة الإسلامية عامَّة وعلى الشيعة الكرام خاصة.
وجميل ما يقوله سماحة السيد المرجع والمفكر السيد المدرسي (دام عزه) في واجبنا الشرعي تجاه القيادة في هذه الظروف الصعبة: “إنَّ القيادات الشرعية في الأمة والتي تجسد نهج الإمام الحسين عليه السلام، إنما هي الامتداد الحقيقي لخط أبي عبد الله، وخط الشهادة والفداء؛ فإذا عرفتها فتمسَّك بها، ولا يزلزلك عنها الوسواس الخناس، ولا تنتكص عنها خشية الظالمين أو رغبة في دنيا المترفين.
وإذا لم تعرفها فابحث عنها حتى تجدها، وإيـاك أن تُبرر التقاعـس بأنك لا تعرف مَنْ يُجسِّد خط أبي عبد الله الحسين عليه السلام فإنك سوف تتخلف -لا سمح الله- عن تلك السفينة التي جعلها الله نجاة للأمـة.
إن الانتصار للقيادة الشرعية والولاية الإلهية لهو الخطوة الأولى في مسيرة النهضة، وإن كل مَنْ يضم صوته إلى صوت الحق يُضيف قوة إلى بنيان الحق، كما أنه يزداد قوة وصلابة.
وإن الخطباء الكرام هم أولى الناس بالدَّعوة إلى القيادات الشرعية والدفاع عن نهجهم الحسيني، وبذلك سوف يؤدون ديْنَهم إلى السبط الشهيد، كما يقومون بواجبهم الشرعي المتمثل في تولي أولياء الله”. (الإمام الحسين قدوة الصديقين السيد محمد تقي المدرسي: ص63).
فشهر محرم الحرام هو جسر الأمة إلى تاريخها الجهادي، ومسيرتها النضالية، هو باب الهداية إلى نور القرآن ومعارفه، والإسلام وحضارته، كما أنه مناسبة لمحاسبة الذات والنفس لتزكيتها، وفرصة ذهبية لمحاكمة الواقع الفاسد الذي نعيشه على ضوء الكتاب، والسُّنة، وتاريخ جهاد الأمة، وأئمتها وسادتها، وقادتها الهُداة الميامين من العترة الطاهرة عليهم السلام.