{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (سورة المائدة، 54).
اقترنت زيارة الإمام الحسين، عليه السلام، بالتحدي من الزائرين، وبالرفض والمنع من السلطات الحاكمة منذ أول اجراء قمعي ضد هذه الزيارة في العهد العباسي، واستمر الشدّ والجذب حول هذه الزيارة بأشكال مختلفة ولم يتوقف ابداً، فضلاً عن أن هذه الزيارة لم تحض بدعم وتشجيع رسمي، إلا في بعض الفترات التاريخية ولمصالح معينة، ولذا كان الدعم يزول بزوال اصحابه عن الساحة السياسية، ما خلا جهة واحدة فقط هي التي كانت ترعى وتدعم وتحثّ على هذه الزيارة وهي؛ الحوزة العلمية بعلمائها ومراجعها وخطبائها ممن كانوا –ومايزالون- يستمدون قوتهم في هذا المسعى من الدعوات المؤكدة الواردة عن الأئمة المعصومين، عليهم السلام، والتأكيد على أهمية زيارة الامام الحسين، وآثارها الايجابية والعميقة والمباشرة في حياة الانسان الفرد والمجتمع والامة.
[ .. لم يخطر ببال الزائرين يوماً –طيلة السنوات الماضية- أنهم سيواجهون تحدياً جديداً بطابع نفسي –إن صح التعبير- بعد فشل التحدي السياسي والقمعي ..]
وطيلة القرون والعهود الماضية لم يكن الهمّ والتحدي أمام هذه الزيارة سوى من جهة الحكام وخوفهم من تلك الآثار النفسية والاجتماعية وحتى السياسية، مع ذلك لم ينحن الموالون والمؤمنون بقضية الامام الحسين وبنهضته الربانية، أمام اجراءات المنع بكل اشكالها، بل حصل عكس ما يرجو الحكام؛ فقد تحول المنع والحظر الى حافز جديد يذكي جذوة الايمان بالنهضة الحسينية اكثر من ذي قبل، ويشجع الزائرين على تجاوز العقبات والاستهانة بالعقبات مهما كانت، وفي مرحلة لاحقة، يحصل التطور في أداء هذه الشعيرة بدخول التنظيم، والإدارة، والمساهمة الاجتماعية الواسعة في إغناء هذه الشعيرة بما تحتاجه من تكاليف مالية وجهود عضلية، فشهد العالم مناظر غير مسبوقة و مدهشة لاصطفاف آلاف المواكب الخدمية والطبية والثقافية على الطرق الخارجية من مدينة البصرة جنوب العراق وحتى مدينة كربلاء المقدسة، وكذا الحال من المناطق الشمالية.
لم يخطر ببال الزائرين يوماً –طيلة السنوات الماضية- أنهم سيواجهون تحدياً جديداً بطابع نفسي –إن صح التعبير- بعد فشل التحدي السياسي والقمعي، علماً أن المساعي الحثيثة بذلت من اطراف عدّة لاختراق جدار الايمان بهذه القضية في نفوس الناس، من خلال الضرب على وتر الفقر، وأن الاموال المبذولة لاطعام وإسكان الزائرين يفترض ان توجه الى الفقراء، ثم جاء دور المرأة لتكون ضمن هذا المسعى على أنها خروجها مع المشاة لمسافات طويلة أمرٌ غير لائق، مع إثارة بعض الاشكالات الشرعية، وحتى مسألة النظافة واحتمال انتشار الاوبئة بسبب الزحام و تناول الاطعمة والأشربة من أواني مشتركة، فقد تم حلّ المشكلة بأواني بلاستيكية باستخدام مرة واحدة فقط، ولم تسجل الزيارات المليونية طيلة السنوات الماضية في العراق، أية حالة غير صحية، او التسبب بانتشار أمراض معدية مطلقاً، واستمرت المسيرة، وشعيرة الزيارة تتألق أكثر وتحقق تطوراً في الثقافة الصحية، وفي الوعي الديني، والتماسك الاجتماعي، الى أن تحولت الزيارة الاربعينية –تحديداً- الى حدث عالمي معترف به في الاحصائيات وتسجيل الارقام القياسية (موسوعة غينس)، ولكن!
[ .. اقترنت زيارة الإمام الحسين، عليه السلام، بالتحدي من الزائرين، وبالرفض والمنع من السلطات الحاكمة منذ أول اجراء قمعي ضد هذه الزيارة في العهد العباسي ..]
يبدو أن تحدياً من نوع جديد يلوح في الأفق في ظل جائحة كورونا، يوهم البعض أن الزيارة المليونية كما في السنوات الماضية يجب ان تكون بشكل آخر يرضي أطراف خارجية تدعي حرصها على الصحة العامة من احتمال ارتفاع نسبة المصابين بهذا المرض الغريب والمريب، ثم احتمال التسبب بوفيات بين الزائرين، إذ يعرف الجميع أن من المستحيل تطبيق أي اجراء وقائي او ما يسمى بالتباعد الاجتماعي في الزيارات المليونية الى كربلاء المقدسة، ولاسيما زيارة الاربعين، لذا فإن الزيارة هذا العام ستشكل علامة فارقة في عالم ما بعد كورونا، وهو ما يدعو المعنيين في العراق لعدم التورط –كما يتوهمون- مع وسائل الاعلام، والمؤسسات الصحية العالمية والتحول الى مادة خبرية سلبية تعطي رسالة خاطئة للعالم عن زيارة الامام الحسين، عليه السلام.
هنا لابد من الاشارة الى حقيقة هامة للرأي العام العالمي من أن المئات من الزائرين تعرضوا للقتل والاعتقال والمضايقات طيلة سنوات حكم حزب البعث، ولم يسمع بهم أحد، علماً أنهم لم يكونوا سبباً في ارباك النظام العام، ولا في خلق مشاكل معينة مطلقاً، بل العكس؛ كانوا يجدون في زيارة الاربعين، وايضاً سائر الزيارت المندوبة للإمام الحسين في يوم عرفة، والنصف من شعبان، وحتى ليالي الجمعة، ما يعزز الثقة والأمل بنفوسهم، ويضخّ فيهم روح التحدي والتصدّي لأي انحراف ثم المضي نحو التغيير للاحسن، وهذه الخاصيّة في زيارة الامام الحسين كانت –وما تزال- مشفوعة بالبركات والمعاجز ما يعزز العلاقة المعنوية وبشدّة بين الزائرين وبين الامام الحسين، عليه السلام.
ولا أدلّ على ذلك؛ أن أحداً من الزائرين لم يخب سعيه نحو كربلاء المقدسة، فهو يعود الى مدينته داخل أو خارج العراق وقد تعلّم دروساً جديدة من النهضة الحسينية، رغم أنه يكرر الزيارة كل عام، و يستشعر التغيير في نفسه وسلوكه ونظام حياته، بينما نجد الخيبة الكبيرة تصيب كل من وقف في وجه هذه المسيرة من الأولين الى الآخرين.
المقال رائع جزاكم الله خيرا