من نفائس الإمام علي في علم الإدارة

العلم الإداري في بعض مفرداته وأفكاره موغل في التاريخ البشري منذ القدم، ولكنه حقق قفزة نوعية في جوانبه الفكرية والتنظيرية عبر الإمام علي عليه السلام. وحيث إننا ندرك إن علم الإدارة ينقسم الى أنواع، منها علم الإدارة التجاري(Business administration)، وعلم الإدارة الشخصي (Personal administration) وعلم الإدارة العامة (administration Public) وغير ذلك. واستطاع الإمام علي عليه السلام أن يثري علم الإدارة بكل أنواعه بمفاهيم غزيرة تحتاج الى عملية تبلور واستخراج بالتبحر في خطبه ورسائله، وحكمه التي تحتوي على كم كبير من المفاهيم والرؤى الإدارية. ولعل التجربة العملية للإمام علي عليه السلام تكمن بالدرجة الأولى في علم الإدارة العامة، متجلياً ذلك في مواقفه، وعدد من رسائله الى ولاته في الأمصار، وبالأخص عهده الى مالك الأشتر. كما برز الإمام علي عليه السلام في مجال علم الإدارة الشخصي عبر مقولاته الحكيمة، ودعواته في أن يحرك الإنسان كوامنه الذاتية ويثق بها، ومن ثم ينطلق بقدراته إبداعاً وعطاءً. ونحن نلاحظ أن العديد من حكم الإمام علي تندرج في إعادة صياغة الإنسان فكراً وسلوكاً ليكون قادراً على إدارة طاقاته ومواهبه بصورة ناجحة وذكية كيما يتخطى الدنيا بنجاح، ويحرز الآخرة بجدارة.

• ما هو علم الإدارة

هناك عدة تعريفات للإدارة وضعها علماء الإدارة، ولكن بحسب دراستي لهذا العلم، نستطيع أن نعرّف الإدارة بأنها العملية الفكرية والعملية التي نستطيع بواسطتها تحقيق الهدف بأقل الجهود وفقاً لمنهج يتضمن خطوات مُحددة سلفاً. هذا التعريف شامل لكل أنواع الإدارة. كمثال: الرغبة لدى مؤسسة أن تكون الشركة الأولى في إنتاج سلعة ما، هو هدف (Goal)، ولكي تصل إليه ينبغي وضع منهج يتضمن خطوات محددة للوصول الى تلك الغاية، تُعرف بالتخطيط (Planning )، ولكن بأقل الجهود من الناحية البشرية والمالية والزمنية. فتكون عملية تحقيق هذا الهدف وفقاً لذلك التخطيط وبأقل تلك الجهود هي عملية الإدارة ( Management).
و أي قائد لا يستطيع أن يدير فإنه لا ينجح في قيادته، حتى ولو ملك كريزما محبة الناس وطاعتهم له. ونستطيع أن نقول أن أفضل القادة هم أفضل الإداريين. ولكن ليس بالضرورة أن كل مدير ممتاز بإمكانه أن يكون قائداً.

وتتقدم القيادة على الإدارة من الناحية المنطقية، لأن القائد هو الذي يملك الإمكانيات، والقدرات البشرية المطيعة له، ثم يوظفها بشكل سليم لتحقيق الأهداف، وهذا التوظيف السليم هو الإدارة بعينها. ونحن نرى في الرسل ولا سيما رسولنا الأعظم صلى الله عليه وآله، وكذلك الإمام علي تحديداً، هم أفضل قيادين وإداريين ناجحين عرفهم التاريخ البشري. لأن قدرتهم على قيادة شعوب أو مجاميع بشرية واسعة قائمة على مجموعة صفات روحية ونفسية متقدمة، وكذا نجاحهاتهم في تحقيق نتائج، إنما أعتمدت على قدراتهم الإدارية إضافة الى التسديد الإلهي بالطبع. وبالتالي نستطيع القول أن سبب التفوق الرئيسي لدى المجموعات البشرية دولاً كانت أو تنظيمات أو مؤسسات هو في نجاحها الإداري. ويرى أثنان من كبار أساتذة الجامعات الأمريكية (1) أن السبب الرئيسي لتفوق اليابان هو مهارتها الإدارية، فليس في الشعب الياباني شيءٌ مميز يمتاز به على الشعوب القريبة منه سوى قدرته الإدارية. وإلا فلا تختلف الثروات الموجودة في اليابان عنها في الصين، أوفي كوريا او فيتنام.

[.. ليس في الشعب الياباني شيءٌ مميز يمتاز به على الشعوب القريبة منه سوى قدرته الإدارية. وإلا فلا تختلف الثروات الموجودة في اليابان عنها في الصين، أوفي كوريا او فيتنام ..]

• من توجيهات الإمام علي في الإدارة

• 1. العناية بالزمن

من أهم المقومات الإدارية الناجحة هي تقدير الشخص لعنصر الزمن، وقد أولى الإسلام هذا العنصر عناية شديدة، وحث على إستغلاله بأفضل صورة، وقد أقسم القرآن بالزمن كما يشير الى ذلك أحد معاني كلمة العصر، {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}. (سورة العصر) . ويُعد الأعتناء بعنصر الزمن هو أحد أهم أسباب النجاح والتقدم، وإهماله سبب رئيسي للفشل والتخلف، باعتباره العامل المحدود (The limiting factor) في عناصر أي تحرك يُراد تحقيق هدفه.

ولو لاحظنا أسباب تخلف العالم الثالث، ومنه العالم الإسلامي بالتحديد لرأينا أن أحد أهم تلك الأساب هي إضاعة وقت الأفراد، ووقت المؤسسات، ووقت الدوائر الحكومية، بحيث أصبحت زمنية إنتاج الموظف الحكومي في بعض هذه البلدان تصل الى أقل من ساعة منتجة. وقد بلغ من شدة إهتمام الإسلام بالزمن أن اعتبر كل يوم هو بمثابة حجة جديدة على الإنسان، يستطيع عبره أن يحصد أعلى درجات الإستفادة منه، ففي الحديث: “أن كل يوم جديد يخاطب الإنسان ويقول له: أنا يوم جديد وغدا عليك شهيد، فقل فيّ خيراً، واعمل فيّ خيراً، فإنك لن تراني بعد هذا”. وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله: “اغتنم خمساً قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك2”. وقال الإمام علي: “إن عمرك وقتك الذي أنت فيه”. وقال أيضاً: “احذروا ضياع الأعمار فيما لا يبقى، فإن فائتها لا يعود”. بملاحظة هذه الأحاديث نكتشف شدة تحريض الإسلام على استثمار الوقت، وكلمة الإغتنام في الحديث الثاني تحمل دلالة واضحة على ذلك، بإرتباطها بإحدى مفردات ظرف الزمان “قبل”.

• 2. الحزم

وهي من الصفات القيادية والإدارية المهمة . ومعنى الحزم كما يفسره الإمام علي عليه السلام: “الحزم النظر في العواقب، ومشاورة ذوي العقول”3، وقريب منه التعريف اللغوي حيث يقول حزم رأيه أو أمره: ضبطه وأتقنه، وحزم الشيء : جعله حزمة أي جمعه مع بعضه البعض، أو وضع الحزام عليه4. ويقول الإمام الشيرازي: من الأمور المهمة لحسن الإدارة الحزم بكل أبعاده، والحزم لفظ يشتمل على معرفة الأشياء، ومعرفة الأمور، والنظر في العواقب، وسرعة الإدراك، والأنتقال من المقدمات الى النتائج، وانتهاز الفرص”.

ومن ثمّ فإن المعنى الإداري الحديث للحزم هو التخطيط العام في الإدارة إبتداء من وضع الأهداف والتصورات، وخطط العمل، وكيفية الوصول الى النتائج، فحديث الإمام علي السابق في أن الحزم هو النظر في العواقب، اي محاولة التعرف على نتائج العمل، ومن ثم وضع التصورات المستقبلية والتي هي جزء أساسي من التخطيط، كما أن مشاورة العقول وأصحاب الاختصاص هي للحصول على معلومات مفيدة في زمن التخطيط من أصحاب الخبرة والكفاءة. ومصطلح التدبير، الذي يأتي في العديد من الأحاديث وحكم الإمام علي يفيد التخطيط أيضاً كقوله عليه السلام: “التدبير قبل العمل يؤمنك من الندم”5 ومن الطبيعي أن مرحلة ما قبل العمل هي التفكير والتخطيط، ولذا عبر الإمام عن هذه العملية العقلية الهامة بقوله: لا عقل كالتدبير6. والتي يستفاد منها القدرة على التخطيط قبل العمل، والتفكير أثناءه للوصول به الى النتائج السليمة. يقول سماحة العلامة السيد هادي المدرسي: “التخطيط للعمل يعزز فرص النجاح فيه، فإي مشروع يقوم على تصور مسبق يصبح سهل الإنجاز. ولقد ثبت أن التخطيط الجيد يشكل خمسين في المائة من تحقيق العمل”7. ويقول الإمام علي عليه السلام: “الظفر بالحزم، والحزم بإجالة الرأي”8. وإجالة الرأي هو تقليب الرأي والتفكير الممعن فيه، ومن أهم ذلك هو مشاورة أصحاب الخبرة، ومن أهم آلياتها الاجتماعات.

• 3. العقل الجمعي

هناك أسلوبان في الحياة، وينعكسان على الإدارة. الأول: العمل الفردي، ونقصد به أن تسيطر الروح الفردية على العمل، بحيث يصبح الشخص سواء كان رئيس دولة أو صاحب شركة أو أي مشروع هو الذي يسيطر على العمل والنظام بأجمعه، وترى بصماته واضحة في كل شيء. وتصبح المؤسسة الإدارية بأكملها تنطلق منه، وبه، وإليه، فهو المحور في كل شيء. وهو ما يُعرف بالإدارة المركزية المطلقة، وأبرز مثال على ذلك الأنظمة الديكتاتورية، حيث تتلخص الدولة بشخص الرجل القوي فيها. وهذا النوع من الإدارة هو الذي عبر عنه القرآن على لسان فرعون: { مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ}.( سورة غافر/29).

وأبرز مخاطر هذا التوجه المركزي في الأنظمة أنه ينتهي بإنتهاء الشخص، لأن الشخص هو محوره الأول والأخير. أما النوع الإداري الآخر فهو القائم على العقل الجمعي، وروح المؤسسة، وهو أما أن يكون مؤسسو العمل جمع من الأشخاص، كحال الجمعيات والتنظيمات، أو مؤسسة فرد واحد، ولكنه يعمل بروح المؤسسة والفريق، وترى الحالة اللامركزية في العمل، ووجود ثقة متبادلة بين أطراف العمل، ومبدأ التفويض. وهذا النوع أقوى ثباتاً في الإدارة، وأكثر صواباً من النوع الأول، إذا استند العمل الإداري الى روح الفريق الواحد القائم على التشاور والتعاون والتنسيق بينهم. ومما يشير الى أن مثل هذا الطريقة الإدارية هي الأقرب الى الصواب والحكمة، قول الإمام علي عليه السلام: “من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها9. وقال: “لا ظهير كالمشاورة”. ويعتبر الإمام علي عليه السلام أن وجود العقل الجمعي يقود الى التفوق والصحة، حيث يقول: “من شاور ذوي الألباب دُل على الصواب”.

[.. من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها ..]

• 4. الاهتمام بالنظام

في العلم الإداري هناك ركنان أساسيان، هما التنظيم، والتشكيل. أي وضع هيكل تنظيمي يدير المؤسسة، والتشكيل ويراد به وضع الأشخاص المناسبين في الهيكل التنظيمي. ويُعد الإهتمام بالنظام من الأمور الأساسية في التقدم، والنجاح، لأن الفوضى والتخبط على الأغلب لا تؤدي الى نتائج متقدمة، فحتى لو نجح فرد على أساس الفرص، ولكنه مع الاستمرار يفشل إذا لم يستند عمله الى روح النظام. وقد أولى الإسلام موضوع النظام أهمية كبرى. فقد ذمت بعض الآيات الحالة غير المنظمة في حياة الفرد، القائمة على الهوى والتخبط. قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}.(سورة الجاثية/23)، وقال تعالى: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً}.(سورة الكهف/28)، وقال الإمام علي عليه السلام: “أوصيكم بتقوى الله، ونظم أمركم”10. وهنا نلاحظ أن الإمام اعتبر تنظيم الأمور هي القضية المحورية الثانية بعد تقوى الله في وصيته لأبنائه والمسلمين حين وفاته، وهذه دلالة واضحة على أهمية التنظيم في استمرار المسيرة. ولقد أهتم الإمام علي كثيرا بموضوع الأنظمة من خلال إهتمامه بوضع العديد من مناهج العمل الإداري والقيادي لولاته في الأمصار، ومن ذلك عهوده الى عدد من ولاته كالأشتر النخعي، ومحمد بن أبي بكر.

• 5. التوجيه

يُعد التوجيه من أركان الإدارة الناجحة. ففي أثناء سير العمل الإداري للدولة، أو للمؤسسة تبرز بعض الأمور الخافية، سواء كانت إيجابية أو سلبية. ولا بد من المدير الناجح أن يتابع كل تطورات العمل، بالتأكد من سيره وفقاً للخطة الموضوعة، والتأكيد على الإيجابيات، وحل المشكلات، والسلبيات التي طرأت أثناء العمل. وإذا لاحظنا سيرة الإمام علي عليه السلام، فسنلاحظ هذا البعد الإداري المهم لديه، فهو يهتم دوماً بتوجيه المسلمين، واتباعهم بالخصوص، وإرشادهم للسبل السليمة في طاعة الله، بل حتى في الأمور الحياتية التي تقوم على الحكمة وفهم الأسباب، وما هذا السيل الواسع من خطبه وحكمه وأحاديثه إلا دلالة على أهمية التوجيه لدى الإمام.

• 6. التحفيز

وقد اعتبره بعض مفكري الإدارة أحد مقومات الإدارة. وقد أولى الإسلام موضوع التحفيز إهتماماً من ناحيتين. هما التبشير والإنذار، فكل عمل سليم فيه رضا الله نرى أن القرآن يمتدحه ويوضح الثواب الآخروي بالدرجة الأولى لمثل هذا العمل، وعبر عملية الإنذار يحافظ الدين على استقامة العباد، من خلال تحذيرهم بالعواقب الخطرة للمعاصي. ونرى في سيرة الإمام علي عليه السلام، شديد الاهتمام بهذا المقوم الإداري المهم. فنرى في العديد من خطبه الحثَّ الشديد على القيام بالمتطلبات العامة المفترضة على الأمة. كما كان يتخذ سبيل إمتداح الشخص حين يقوم بعمل رائع، ويفتخر بذلك العمل أمام الآخرين ونرى أن الإمام علياً عليه السلام يخاطب مالك الأشتر في عهده إليه، بإيضاح أمرٍ هام في التحفيز، فيقول: “ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة، وإلزم كلاً منهم ما ألزم نفسه”11.

—————————————————–
(1) ريتشارد تانر باسكال وانطوني ج. آثوس في كتابهما ” فن الإدارة اليابانية” دار الحمراء – بيروت ط 1 ص: 7
(2) الحديثان نقلاً عن كتاب الإدارة ج1 ص 165- موسوعة الفقه للإمام الشيرازي – دار العلوم، بيروت
(3) منتخب ميزان الحكمة 136- محمد ريشهري – مركز دار الحديث – قم 1422هـ
(4) المعجم الوسيط – مجمع اللغة العربية – القاهرة
(5) منتخب ميزان الحكمة، 136 مصدر سابق
(6) نهج البلاغة – قصار الكلمات – رقم 113
(7) فنون النجاح 34 – سلسلة كيف تنجح (4) الدار العربية للعلوم- بيروت
(8) نهج البلاغة – قصار الكلمات – رقم 48
(9) نهج البلاغة 3/193
(10) نهج البلاغة 3/47
(11) نهج البلاغة، عهد الإمام الى مالك الأشتر.