-1-
تمر علينا ذكرى عاشوراء، هذه الذكرى التي تتجدّد كل سنة، لتذكرنا بكل تلك التضحيات العظيمة التي بذلها الحسين، عليه السلام، وأهل بيته وأصحابه، وكل الدماء الطيبة التي نزفت على أرض كربلاء، وكلّ أولئك الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وبذلوا لأجله أغلى ما عندهم.
فلنتسائل؛ لماذا نحيي ذكرى عاشوراء؟ ولماذا تُبذل من أجله الجهود والأوقات والأموال والإمكانات، والاستعدادات التي تُهيأ؟ هل لكي لنعبر عن مشاعرنا ونستثير عواطفنا، ونذرف دموعنا، ونظهر شديد حبنا للحسين، عليه السلام، وأهل بيته وأصحابه؟ أم هو تعبير عملي عن وفائنا للحسين، عليه السلام، ولكل ما قدم وأعطى؟ أم لنكسب الأجر على قيامنا بهذا الإحياء؟
نعم؛ نريد من عاشوراء كلّ ذلك؛ حبّاً وعاطفةً وتعظيماً وتقديراً وتمجيداً لمن قدّم كلّ تلك التّضحيات الجسام، لا لأجل مجد شخصي وهدفٍ ذاتيّ، بل من أجلنا، حتى يصل الإسلام إلينا نقيّاً صافياً، ونكون أمّة حيّة فاعلة حاضرة في كلّ ميادين الحقّ والعدل.
عندما خرج الحسين، عليه السلام، من المدينة ومعه أهل بيته وأصحابه، كان رافضا للواقع الفاسد الذي خلقه يزيد ونظام حكمه في الامة، وخرج في وضح النهار – ليس هارباً من والي المدينة كما يقول البعض – بعد أن أعلن له جهاراً رافضاً طلبه البيعة ليزيد:
«إنّا أهل بيت النبوة… ومثلي لا يبايع مثله»، ليبدأ بخروجه الى العراق، مشروع الثورة ضد الفساد والفاسدين من خلال بيان موقفه الحاسم والواضح بعدم قبول بيعة انسان فاسد، وهو عالم بحجم التحديات التي سيواجهها، فكان مستعداً لها، وهو ما جاء في عهده لأخيه محمد بن الحنفية:
«إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في امة جدي….».
-2-
كان، عليه السلام، على بينة من أمره عارفاً بأهدافه بعد أن شخص الداء والدواء والوسيلة؛ فالداء: هو وجود حاكم مثل يزيد، وأمة خانعة تقبل بكل حاكم، والدواء: هو الإصلاح الذي يرفض بقاء الواقع الفاسد ويعمل على تغييره، على أن تعود الأمة إلى ما كانت عليه في حيويتها وفاعليتها السابقة، أما الوسيلة: فهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو بذلك لم يخرج محارباً مقاتلاً، وإنما خرج داعياً مغيّراً.
كان هدف الحسين، عليه السلام، استهداف مواقع الفساد وتحديد نقاط الإنحراف وتبيانها للناس، ليُخرج أمة جده عن صمتها وهزيمتها النفسية، إذ كان مصراً على ذلك حتى تتحمل هذه الأمة مسؤوليتها في التغيير والإصلاح، فما دامت ساكتةً سيبقى الظالم جاثماً على الصدور، والفساد مستشرياً.
لم يكن الحسين، عليه السلام، يستهدف شخص يزيد، فليست للإمام مشكلة شخصية مع يزيد ولا مع أبيه، ولا مع أي شخص من الامويين، إنما استهدفه لانه مثّل -حينها- الفساد والانحراف والطغيان، فهو، عليه السلام، حارب الفساد كظاهرة وحالة اجتماعية وسياسية، وهذا تحديداً ما جعل النهضة الحسينية خالدة مع الزمن، وحيوية لكل زمان ومكان؛ «كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء»، لذا فان هذه النهضة تستهدف كل فاسد وكل منحرف وكل طاغية وكل باغ، كما في الماضي، في الحاضر والمستقبل ايضاً.
يبقى السؤال هنا؛ عن مسؤوليّة الأمّة في استمرار وجود من يحملون منطق يزيد في مواقع الحكم والسلطة، ودورهما في تقويم هؤلاء او تغييرهمجذرياً.
لندخل موسم عاشوراء بعقلية الإمام الحسين، عليه السلام، عندما قال: « ألا وإنَّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشّيطان، وتركوا طاعة الرّحمن، وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ من غيَّر…»، وهذا منطق المصلحين الرافضين لكل فساد وانحراف، وأن نكون بعقلية المغيرين الرافضين لكل ظلم وفاسد، وأن لا نجاملهم ولا نبرر لهم ولا نؤيدهم، وأن ننطلق من قوله، عليه السلام: «ايها الناس ان رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قال مَن رأى منكُم سُلطاناً جائِراً، مُستحلاً لحرم الله، ناكثاً بعَهدِه، مُخالِفاً لسنّةِ رسولِ الله، يَعملُ في عبادِه بالإثمِ والعدوانِ، فلم يُغيّر عليهِ بقولٍ ولا بفعلٍ، كان حَقّاً على الله أن يُدخِله مَدخلَه».
-3-
إن الفساد والانحراف والظلم، كلها مفاهيم صادرة من منبع الباطل الذي قد يتجلى في أي انسان، ما عدا المعصومين والصالحين ممن امتحن الله قلبهم بالإيمان، فكما نجد التجسيد في حكام سادوا في بلاد وأمم في فترات مختلفة من التاريخ، فانه يمكن ان يتجسد كل تلك المفاهيم في زوج مع زوجته وافراد أسرته، وايضاً في رب العمل مع عماله، أو في مسؤول حكومي مع موظفيه، او الموظفين انفسهم مع المواطنين، وهكذا… فالفساد الذي نلحظه في دوائر الدولة، من رشاوى وابتزاز واختلاسات وغيرها، هو بالحقيقة قرينٌ لفساد يزيد وأمثاله، مع فارق الظروف الاجتماعية والسياسية، وابعاد الفساد، بيد أن الحالة تبقى واحدة تستدعي النهضة الشاملة للقضاء عليها.
لنبدأ من أنفسنا بالتغيير؛ ابتداء من افكارنا وكلماتنا ومواقفنا وتعاملاتنا مع الآخرين، وليعمل كلٌ منا حسب قدراته وظروفه ودوره، بأن يبدأ بالإصلاح من بيته، وحيه السكني، وقريته وفي موقع عمله، ثم التوسع ليشمل الاصلاح، الأمة والوطن والعالم، هذا هو مقتضى الإصلاح من منطلق {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}، (سورة الرعد: 11).
لقد أدى الإمام الحسين، عليه السلام، وأهل بيته وأصحابه دورهم على أحسن حال، ومن أجل ذلك بذلوا أرواحهم وسبيت نساؤهم؛ وأبقوا على عاتقنا مسؤولية أن نتابع المسيرة، وقد لا تكون بنفس طريقتهم، ربما يتحقق هذا الإصلاح بأي طريق كان، المهم أن السؤولية الملقاة على عاتقنا من قبلهم صلوات الله عليهم أجمعين، بأن باطلاً يسقط وفساداً يتغير وإصلاحاً يتم.
لنجعل من عاشوراء شعاراً للوحدة على المستوى الإسلامي والإنساني، لأجل تغيير أنفسنا والتقدم بها نحو الأفضل متخذين ثورة الحسين قاعدة لنا لنتحدى كل الطغاة بالعالم، ولنؤكّد في هذه المرحلة التي يراد فيها للأرض أن تهتزّ تحت أقدامنا، وأن نغرق في ساحة الفتن الّتي نصنعها نحن أو يصنعها الآخرون، أن يكون خطاب عاشوراء هو الخطاب الّذي يُسهم في وأد الفتن، لا الخطاب الذي يصبّ الزّيت على نارها، خطاب الكلمة الأحسن والجدال بالّتي هي أحسن، الخطاب الذي يفتح قلوب الآخرين وعقولهم، لا الّذي يغلق قلوب الآخرين.. لذلك نقولها، وانطلاقاً من وعينا لمسؤوليّتنا التي وعاها الحسين، عليه السلام، حين كان يطلق خطابه حتى وهو في قلب المعركة.
كل من لديه كلمة طيّبة تنتج حبّاً وتواصلاً فليقلها، ولنغمد سيوف الحقد والعداوة، ونخرجها من قلوبنا وكلماتنا وأعمالنا، ولنطفئ النيران في الصّدور والعقول، وإلا فنحن جميعاً منهزمون، لا يظنّ أحد أنه منتصر في معركة الفتنة، الكلّ خاسر، ولن يأتي هذا العالم إلينا ليخفّف من نيران هذه الفتنة، بل سيبقيها ويعمل على تأجيجها، وما يفعله هو أن لا تمتدّ نارها إليه.