يعد الاقتصاد أحد الاركان الرئيسة التي تسهم في بناء الدول واستمرار ديمومتها وفاعليتها وزيادة قدرتها على التماسك والصمود في وجه التحديات ، كما يشكل التنظيم المالي جزءاً لا يتجزأ من التنظيم العام للدولة في باقي المجالات السياسية والاجتماعية والصحية والتربوية .
وتمثل رؤية الامام علي عليه السلام إزاء معالجة مشكلات المجتمع الاسلامي بغية تحقيق العدالة الاجتماعية ، أنموذجا يهتدى به في التنظيم الاداري ووضع السياسات العامة، لا سيما المتعلقة منها بالجانب الاقتصادي والمالي، إذ كانت سياسته الاقتصادية والمالية -عليه السلام- نابعة من سياسة الرسول الاكرم محمد، صلى الله عليه واله، التي عُنيت بتطوير الحياة الاقتصادية، وإنعاش الحياة العامة في جميع أنحاء البلاد، بحيث لا يبقى فقير أو بائس أو محتاج، وذلك بتوزيع ثروات الأمة توزيعاً عادلاً على الجميع.
و يُعرف الاصلاح من حيث المفهوم اللغوي بأنه جعل الشيء أكثر إصلاحاً، أي التعديل في الاتجاه المرغوب فيه، أو التغيير نحو الافضل، أما المفهوم الاقتصادي للإصلاح فهو تعبير عن السياسات الاقتصادية التي تهدف الى تعديل مسار الاتجاه الاقتصادي المرغوب فيه أو تصحيحه باتجاه تحقيق التوازن بين النفقات والايرادات، والسيطرة على التضخم وخلق فرص عمل، وايصال الاقتصاد الى حالة الاستقرار وتحقيق التنمية(1).
[ .. كان الامام علي عليه السلام يرى أن المال العام ليس ملكاً للدولة بحد ذاتها وإنما ملك لله عز وجل، إذ وجّه الولاة في صرفه بمصرف معلوم وعادل والا فأنه إسراف وتبذير ..]
-
تنظيم الاموال المُتحصلة من “الخراج”
كان الخراج -أي عائدات الدولة من الضرائب وغيرها- يمثل العصب الاساسي للإيرادات المالية، لذا ارتأى الامام عليه السلام عدم جواز التأكيد على مقادير الخراج دون الاهتمام بعمارة الارض وتطويرها وتحقيق العدالة الاجتماعية بين الناس، وعدّ ذلك الاساس في جمع الاموال وانفاقها فمن وصيته لواليه على مصر مالك الاشتر رضوان الله عليه: “وليكن نظرك في عمارة الارض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لان ذلك لا يدرك الا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد”(2).
وبذلك اشارة واضحة على التأكيد بضرورة استصلاح الاراضي الزراعية والعناية باستثمارها من حيث حرثها وسقيها بوسائل الري المختلفة، واعتبار الاموال التي تصرف في عمارة الارض تمثل استثماراً هاماً لأن كل مال يصرف بهذا الجانب سيجنى ثماره من استصلاح للأرض وزيادة أنتاجها وعمرانها، لذا فهذا الاساس الصحيح الذي يجب أن يؤخذ به لزيادة وارادات الخراج، أما ما يجبى عكس ذلك فهو امر مصيره خراب الارض وتحويلها الى أراض ميتة ومجذبة ومتوقفة عن الانتاج الزراعي الذي هو عماد الحياة البشرية(3).
-
العدالة في انفاق المال العام
كان الامام علي عليه السلام يرى أن المال العام ليس ملكاً للدولة بحد ذاتها وإنما ملك لله عز وجل، إذ وجّه الولاة في صرفه بمصرف معلوم وعادل والا فأنه إسراف وتبذير، فيقول عليه السلام: “لو كان المال لي لسويت بينهم فكيف والمال مال الله ألا وأن بذل المال في غير حقه إسراف وتبذير”(4)، وهذا يعني أن الحاكم مؤتمن على المال العام ولا يجوز خيانة الامانة، بالإضافة الى أن الحاكم مكلف على بذل المال ودورانه في المجتمع لمصالح العباد، فلهذا لا يصح للحاكم أن يستولي على مال الدولة الذي به بناء البنية التحتية للاقتصاد، وان يضع نصب عينيه عدالة الانفاق في دفع مرتبات الجند والقضاة والكتاب والعمال مقابل الخدمات التي يقدمونها للدولة والمجتمع(5).
ومن خطبه عليه السلام عندما انكر عليه قوم تسويته بين الناس في الفيء: “فأما هذا الفيء فليس لأحد فيه على أحد أثرة، قد فرغ الله عز وجل من قسمه فهو مال الله وانتم عباد الله المسلمون”.(6)، ومثل الفيء العماد المالي الرئيس للدولة وهو المال الذي حصل عليه المسلمون من أعدائهم من غير قتال، وما ملكه المسلمون من أموال عفوا لانجلاء المشركين عنها وتصبح بالاستيلاء عليها وقفاً عاماً ويضرب عليها الخراج، ويؤخذ ممن عومل عليها مسلماً كان أو معاهداً ويجمع بين خراجها وأعشار زرعها، وقد ذكر القران الكريم الفيء في قوله تعالى: {وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.(7).
وتطور مفهوم الفيء فصار يشير الى المال العام بكل أنواعه، أي الغنائم والجزية والخراج والزكاة فضلا عن الضرائب، فموارد بيت المال العام عند الامام يستوجب استحصالها بالعدل والانصاف كما يجب أن يكون إنفاقها على المسلمين بالعدل والانصاف(8).
[ .. إنّ سياسة الاصلاح المالي للإمام علي عليه السلام، نابعةٌ من حرص الامام على نبذ كل ما يضر بالمال العام، ولم يتوانى في أتخاذ كل ما يلزم لإسعاد المجتمع وكفاله حمايته من خط الفقر وتحقيق العدالة الاجتماعية ..]
-
العبرة من سياسة الامام في المجال المالي
إنّ سياسة الاصلاح المالي للإمام علي عليه السلام، نابعةٌ من حرص الامام على نبذ كل ما يضر بالمال العام، ولم يتوانى في أتخاذ كل ما يلزم لإسعاد المجتمع وكفاله حمايته من خط الفقر وتحقيق العدالة الاجتماعية . ونحن في العراق اليوم بأمس الحاجة لقراءة الفكر الاقتصادي والمالي لأمير الؤمنين عليه السلام، والاستفادة منه في تجاوز الازمة الاقتصادية والمالية الناجمة عن الصدمة المزدوجة المتمثلة بتفشي وباء كورونا وانخفاض أسعار النفط، والتفكير جدياً من قبل صانع القرار السياسي والاقتصادي في إيجاد البدائل والحلول الاقتصادية والمالية، لكن تكلفه الاصلاح ستتفاقم كلما تأخر التصدي له وبأن من غير الممكن تأجيل هذا الاستحقاق لمعالجة الوضع الاقتصادي والمالي المتدهور، وقد آن الاوآن لوضع حلول جذرية لبرنامج الاصلاح ذات رؤية واضحة لدى المسؤولين المعنيين، تعمل في ظل بناء مؤسساتي فاعل ومؤثر، وإدارة كفؤة لتنظيم الاقتصاد العراقي وتفعيل القطاع الخاص وأيجاد توازن في الايرادات والنفقات، مع مراعاة الاثار الاجتماعية والعدالة في توزيع الدخل .
إن أي إصلاح أقتصادي يجب أن يسبقه إصلاح سياسي وحرب حقيقية على الفساد المالي والاداري، والسلام عليك ياسيدي ومولاي يا أمير المؤمنين .
———————————
1-كريم سالم حسين ، الاصلاح الاقتصادي في العراق ما بعد 2003 رؤية مستقبلية ، مركز البيان ، بغداد ، 2018م ، ص 5.
2- نهج البلاغة ج2 ص 82
3- خولة عيسى صالح ، المضامين الاقتصادية والعدل الاجتماعي في عهد الامام علي عليه السلام ، مجلة التراث العلمي العربي ، العدد الثاني، 2014م ، ص 55.
4- تأريخ اليعقوبي ، ج2 ، ص 84.
5- الشيخ نزيه محي الدين ، السياسة الاقتصادية للأمام علي عليه السلام ، ص 22.
6- الشيخ أبو محمد الحسن الحراني ، تحف العقول عن ال الرسول ، منشورات ذوى القربى ، 1424 هـ، ص 129.
7- سورة الحشرة ، أية 6.
8- خولة عيسى صالح، مصدر سابق ، ص 61.