قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}.[البقرة:267].
بالتدبر في آيات الذكر الحكيم يلاحظ الانسان الاهتمام الكبير الذي يوليه القرآن لمسألة (الانفاق والعطاء) کلبنة اساسية وهامة في كيان المجتمع الإسلامي. فالإيمان بالله يُقرن بالانفاق، والتقوى لا تكتمل الا بالانفاق، والصدقات تطهر حياة الانسان من سلبية الشُّح، والصلاة – في الغالب – لا تُذكر إلّا الى جانب الزكاة، وهكذا سائر المجالات.
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}
وفي الآيات 261 الی 274 من سورة البقرة يتحدث الباري عز وجل الينا عن جوانب مختلفة من الانفاق، ومن ذلك شروط الانفاق السليم:
1- ففي الآية 261 يركز على أن يكون الانفاق (في سبيل الله) وليس بهدف شراء الذمم، أو تطويع فئة من الناس، أو التعالي عليهم.
2- وفي الآيات 262-264 يؤكد الخالق عز وجل على أن لا يُتبِع المنفِق انفاقة وصدقاته بالمن والأذى.
3- وفي الآية 267 التي تلوناها في بداية هذه الكلمة يؤكد الرب سبحانه على أن يكون الانفاق والعطاء من الطيبات وليس مما تعافه النفس ويرفضه الإباء.
وفي الحقيقة للانفاق جانبان احدهما يرتبط بالمُنفِق نفسه، والآخر يرتبط بالمنفَق عليه.
أما ما يرتبط بالمنفِق نفسه فهو تطهير النفس من البخل، وتزكيتها من الشح، وتحريرها من التعلّق المفرط بالدنيا وما فيها من الماديات، يقول الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}.
صحيح أنَّ على الانسان ان لا ينسى نصيبه من الدنيا، وصحيح أنه يدعو في صلواته: {رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، فهو يطلب أن تكون دنياه حسنة، ولكن عليه أن يحذر من التورط في الالتصاق بالدنيا والتهالك على الجمع والتكاثر، بل عليه أن ينفق باستمرار، وبشروط الانفاق السليم، حتى يعوِّد نفسه على ترك زخارف الدنيا ومادياتها بسهولة.
[.. المؤمن لا يجمع الأشياء والأدوات والأطعمة المستهلكة وغير المرغوبة لينفقها، لأنه يستمع الى نداء ربه يقول له: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ}..]
وأما ما يرتبط بالطرف الآخر وهو المنفَق عليه، فهو التكامل معه وانقاذه من ورطة الفقر والمسكنة والضعف المادي، ولكن دون تحسيسه بالحقارة وأنه مواطن في الدرجة الثانية. وبعض هذا الجانب عالجته الآية الناهية عن إِتْباع الصدقات بالمنِّ والأذى، وتعالج هذه الآية البعض الآخر، حيث تأمرنا بالانفاق من الطيبات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ}.
فما يكسبه الانسان من المال أو الامكانات أو سائر امور الحياة الدنيا هو خليط من الطيب والخبيث، وأنْ يمد الانسان يده ليأخذ الخبيث مما كسب ويدفعه للآخر، أمر مرفوض ولا يليق بالانسان، فكيف بالمؤمن، بل ينبغي أن يكون الانفاق من الطيبات، وبهذا الشرط يكون الانفاق عاملا في مكافحة الفوارق الطبقية الهائلة في بعض المجتمعات.
فالانسان قد يميل احياناً لكي يرى نفسه أعلا من الآخرين، فيبقي لنفسه الطيبات مما كسب بينما يدفع الخبيث للآخرين، لأنه يرى نفسه جديراً بذلك والآخر ليس جديراً.
يسعى الإسلام لردم الهوة – مهما أمكن – بين الطبقات الاجتماعية المختلفة، فحينما يتعود المجتمع على الانفاق من الطيبات يرتفع المستوى المعيشي للفئات الفقيرة والمحرومة، وبالتالي تقترب شيئاً فشيئاً الى مستوى سائر فئات المجتمع المستغنية.
إذن، فالمؤمن لا يجمع الأشياء والأدوات والأطعمة المستهلكة وغير المرغوبة لينفقها، لأنه يستمع الى نداء ربه يقول له: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ}، فما لا ترغب فيه أنت وما لا تأخذه لو أُعطي لك لا تعطه لغيرك. وهذا مقياس لطيف، انظر ما الذي ترغب فيه وتعتبره طيباً فأنفق منه، وليس مما ترفضه لو كنت أنت الآخذ إلّا أنْ تتغاضى عنه وتتساهل في الأمر.
وقد يمنع الانسان من الانفاق الطيب ومقاسمة الطيبات بينه وبين الضعفاء، قد يمنعه خوفه من الفقر وأن يصبح هو الآخر من الطبقة الفقيرة والضعيفة، ولكن الله تعالى يذكِّره بحقيقة هامة حين يقول له: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}. فما دام الله غنياً فهو يضاعف فضله عليك لو أنفقت من طيبات ما تملك، ويعوّضك أضعافاً مضاعفة.