قديماً قيل إن أكثر من يتصف بالتغيّر والتقلّب هو “القلب”، بل ان المعنى اللغوي لهذه المفردة تدلّنا جليّاً على معناها، وبما أن معظم سلوكيات وحالات ومواقف الانسان في حياته تنبع من هذا الجانب المهم والحيوي في كيانه، فان من الضروري بمكان اتخاذ جملة من الاجراءات الاحترازية للحؤول دون حصول تحولات وتقلّبات ربما تكون في غير صالح الانسان أو تدفعه الى مسارات لا يحمد عقباها.
وخير مَن يعطينا الصورة الناصعة والجميلة للقلب هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، عليه السلام، ففي فصل من “نهج البلاغة”، وفي باب المختار من حكمه، يقول عليه السلام:
“لقد عُلّق بنياط هذا الإنسان بضعةً هي أعجب ما فيه وذلك القلب. وله مواد من الحكمة وأضداد من خلافها، فإن سنح له الرجاء أذلّه الطمع، وأن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وأن ملكه اليأس قتله الأسف، وان عرض له الغضب اشتدّ به الغيظ، وأن أسعدهُ الرضا نسي التحفّظ، وأن نالهُ الخوف شغلهُ الحذر، وأن اتسع له الأمر استلبتهُ الغِرّة، وان أفاد مالاً أطغاهُ الغنى، وأن أصابتهُ مصيبة فضحة الجزع، وأن عضّته الفاقةُ شغله البلاء، وأن جهده الجوع قعد به الضعف، وأن أفرط به الشبع كظّته البطنة، فكل تقصير به مُضرّ، وكل إفراط له مفسدٌ”.
-
أهمّية القلب ومكانته لدى الإنسان
القلب يعلب دوراً مصيّرياً وهادياً في الجسم وهو ذو علاقة وطيدة بسائر الأعضاء بحيث أن صحة وسلامة الجسم يتوقف عليه.
فالقلب بدلالته المعنوية، أو ما يسمى بالروح، له الدور الأساس على صعيد شخصيّة الإنسان.
ولذلك، ليس عجيباً أن يقول الامام: “لقد علّق بنياط هذا الإنسان بضعة هي أعجب ما فيه: وذلك القلب”.
فكما أن القلب هو مركز للعلم ومصدر للحكمة، كذلك يمكن أن يصبح مصدراً للجهل والسفاهة، فيما إذا لم يسع الإنسان في سبيل تطهيره وجعله على خطى الهداية والصلاح. فمن أجل نقل صورة واضحة عن القلب وحالاته المختلفة والمتضادّة، ينقل لنا الإمام أميرالمؤمنين، عليه السلام، نماذحاً وصوراً لهذا العضو الحساس في الجسم.
-
الصورة الأولى: الأمل
فلا يخفى على أحد أهمّية الأمل بالنسبة لاستمرار الحياة، فبالأمل يطمح الإنسان للسعادة والحياة المثلى فيكون الأمل نافعاً ومفيداً حينما يكون متزناً وفي غير هذه الحالة فإنه سوف يكون مضراً ويولّد حالات مرضيّة مختلفة، فالأمل بهذا المعنى يؤدي إلى الهلاك فينبغي على الإنسان حينئذٍ ان يراقب نفسه عبر خطوتين تاليتين:
1. أن يكون أمله وتعلقه بالأمور المفيدة والمصيرية.
2. أن يسيطر على آماله وطموحاته ويجعلها ضمن صورها الطبيعية.
[.. كما أن القلب هو مركز للعلم ومصدر للحكمة، كذلك يمكن أن يصبح مصدراً للجهل والسفاهة، فيما إذا لم يسع الإنسان في سبيل تطهيره وجعله على خطى الهداية والصلاح ..]
-
الصورة الثانية: اليأس
من إحدى حالات “القلب” حالة اليأس والتي يقابلها حالة الأمل. فهناك بُعدان لهذه الحالة:
البعد السلبي والمضر، والبعد الإيجابي والمفيد فالبعد الإيجابي هو اليأس عما في ايدي الناس، كما يعبر الحديث الشريف، فهذا النوع من اليأس، يجلب للإنسان الرفعة والاحترام، كما أن النظر إلى ما في أيدي الناس يجلب المذلّة والاستصغار. والبعد السلبي لحالة اليأس هو حالة اليأس من الحياة، وهذا يُعد أمراً مرفوضاً وخطيراً للغاية ينبغى معالجته.
-
الصورة الثالثة: الغضب
الغضب وهو: من تلك الحالات التي يصاب بها الإنسان عند مواجهته لأمر أو لحالة لا يوافق ولا يلائم طبائعه وميوله، فرغم أنه يعد أمراً لازماً للإنسان بحسب تكوينه النفسي، فهو بحاجة أيضاً إلى الترشيد والرعاية وفيما عدا ذلك فإنه سوف يجلب للإنسان المشاكل والمصائب التي هو في غنى عنها. فالغضب حالة من حالات الجنون التي يفقد الإنسان فيها عقله حيث يقول الإمام، عليه السلام: “الحدة ضرب من الجنون”.
والتاريخ يشهد أن الكثير من الحروب والمصائب حدثت نتيجة تغلّب حالة الغضب وتوتر الإعصاب على الإنسان، فيتخذ قرارات خطيرة ذات أبعاد وتأثيرات سلبية، ربما تفوق محيط العائلة والمجتمع، لتصل الى شعب بكامله.
-
الصورة الرابعة: الرضا
حالة الرضا، والتي تقابل حالة الغضب، فحالة الرضا عبارة عن حالة يتعرض لها الإنسان عند مواجهته لأمور موافقه لأميالة ورغباته. ولكن الإنسان لطبيعته العجولة ينسى التحفّظ، ويفقد الاتزان عند حالة الرضا والفرح ويحطّ من هيبته وكرامته ويسبب لنفسه احراجاً ومشاكل شتّى، فيما إذا لم يسيطر على نفسه أو إذا فقد الاتزان والتركيز.
-
الصورة الخامسة: الخوف
الخوف والحيطة يكون نافعاً عندما يكون في محله المناسب، وحينما يكون خاضعاً للاعتدال والمراقبة، وفي غير هذه الحالة فإنه يكون عاملاً للإحباط والتراجع فالخوف بمفهومه السلبي يكون مانعاً أمام تقدم الإنسان، فهو لا يُقدم ولا يبادر إلى الخير، تحت ذريعة اجتناب الصعاب والتهرب من الواقع.
[ .. حالة الاعتدال مطلوبة في كل الأحوال، حتى فيما يخصّ القلب، بل وحتى فيما يخصّ العبادة. يقول الإمام، عليه السلام: “من لم يفرّط في أمره عاش في الناس حميداً”..]
-
الصورة السادسة: الأمن والرفاهيّة
ليس هناك من لايستلّذ بنعمة الأمن والرفاهيّة، لكن الاسترسال والاستغراق بالملذات الدنيوية يؤدي إلى عمى القلب والغفلة مما يجعله فاقداً للحيطة والحذر وعرضة لبعض المخاطر.
-
الصورة السابعة : البلاء
فالدنيا عبارة عن بيت لا تخلو من البلاء والمصائب، وكما يعبر الحديث الشريف: “دار بالبلاء محفوفة”. فالإنسان منذ أن يولد حتى لحظات موته لا ينفك عن المشاكل والهموم.
وبشكل عام؛ فالمشاكل التي تعترض حياة الإنسان، تكون مفيدة ونافعة له وتوصله إلى شواطئ السعادة والأمان رغم أن الكثير من الناس لا يتحمّل الصعاب أو يفقد صبره ويجزع عند مواجهته لها.
في حين أن الجزع في حد ذاته يعد مصيبة ثانية إضافيةً إلى الأولى، وخلاصة الكلام؛ أن الأشخاص الذين لا يصبرون أمام الصعاب لا يمكن لهم أن ينالوا السعادة الحقيقية.
-
الصورة الثامنة: الثروة
إن المكنة والثروة من النعم الإلهيّة العظيمة، فإن استغلت خير استغلال جلبت للإنسان السعادة الدنيويّة والاخرويّة أيضاً. فالمال والمكنة المادية من عوامل السعادة شريطة أن يتعامل معها الإنسان تعاملاً منطقياً وعقلائياً ومتحرراً من سلبياتها الهالكة، وطالما سلبت الثروة والمكنة المادية عقول الناس وجعلتهم طغاةً على مر العصور.
ورغم أن الفقر والعوز يمكن أن يكون دافعاً نحو الكمال والسمو الروحي، فهو في نفس الوقت يسبب للإنسان بعض المشاكل، من هنا، نجد الكثير يبذلون جهدهم في الحياة لعدم الوقوع في هذا المأزق، ويشير الإمام عليه السلام، إلى حالة التعادل فيقول:
“فكل تقصيرٍ به مُضر، وكل افراطٍ له مفسد”. “ومن لم يفرّط في أمره عاش في الناس حميداً.”
فحالة الاعتدال مطلوبة في كل الأحوال، حتى فيما يخصّ القلب بل وحتى فيما يخصّ العبادة. يقول الإمام، عليه السلام: “من لم يفرّط في أمره عاش في الناس حميداً”. ويقول أيضاً: “لا ترى الجاهل إلاّ مُفرطاً أو مفرّطاً”.