بينما كان مواطنون اميركيون من ذوي البشرة السمراء يصبّون جام غضبهم على الثقافة العنصرية التي حفّزت ذلك الشرطي ليجثوا بركبته على عنق جورج فلويد ويقتله بدم بارد أمام مرأى الناس، كانت أصوات ترتفع هنا وهناك من البعض في الغرب وفي البلاد الاسلامية تصبّ جام غضبها على الثقافة العنصرية ايضاً، ولكن! ضد المسلمين على أنهم لا يقلّون عنصرية عن الاميركيين وربما الشرطة الاميركية! وأن عليهم التفكير بعنصريتهم قبل الحديث عن المساواة المفقودة في الغرب واميركا.
طبعاً؛ ما شهدناه من تفاعل “اسلامي” على مواقع التواصل الاجتماعي على قضية المواطن الاميركي المقتول، وايضاً مع قضية المواطنين الاميركيين من أصول افريقية، لم تكن من منطلق التفاضل، على أن البلاد الاسلامية خالية من التمييز العنصري باشكال مختلفة، سواءً على الصعيد الحكومي، او على الصعيد الاجتماعي، إنما كان تضامناً مع الصدمة العالمية بسحق قيم المساواة والحرية تحت أقدام شرطة البلد المدعي الدفاع الاول عن الديمقراطية والحرية وحقوق الانسان في العالم، وإلا فإن شعوب الارض جميعاً مشغولة بكيفية مواجهة جائحة كورونا، والسبل الكفيلة بالحفاظ على الارواح التي تزهق يومياً بالمئات، سواءً في الدول الاسلامية وسائر دول العالم، إلا اللهم تأخذ الاحتجاجات المناهضة للعنصرية ابعاداً واسعة، مع تغطية اعلامية أوسع، ربما تفوق في اهميتها على الساحة جائحة كورونا.
[.. اراد حزب البعث في العراق زرع فكرة العنصرية في ثقافة الشعب العراقي وتحويلها الى سلوك ومنهج في حياتهم كما فعل هو في ليقدم تطبيقاً عملياً لما يجب ..]
ليس هذا فقط، بل صدرت أصوات عبر نفس وسائل التواصل من اشخاص عراقيين اعربوا عن بالغ اشمئزازهم من بيانات التضامن مع الحالة الانسانية المنتهكة في اميركا، على “أنكم يجب ان تبحثوا عن الحالات الانسانية في بلادكم قبل الحديث عن مآسي الآخرين”، وهي دعوة بحد ذاتها تكشف عن نمط تفكير غريب تضع لقيم الحرية وحقوق الانسان حدوداً جغرافية لأول مرة في التاريخ.
نعم؛ نبحث عن الحالات الانسانية في بلادنا الاسلامية، ولنأخذ العراق مثالاً، فهو لطالما تسلط عليه الأضواء في وسائل التواصل الاجتماعي و المواقع الخبرية والقنوات الفضائية، وباتت كل شاردة وواردة تمثل همّاً إعلامياً وثقافياً لدى الجميع في مختلف انحاء العالم!
كيف كان الناس يعيشون طيلة عقود من الزمن في هذا البلد؟
هل كان الناطق باللغة العربية يتحسس من الناطق باللغة الفارسية؟ وهل كان الشيعي يشعر بتفوق وتميّز على أخيه المسلم من الطوائف الاخرى، بل حتى مع ابناء الديانة المسيحية والصابئة؟ ولا يفوتني الأخوة الكُرد الذين كانوا يعدون جزءاً من جسد المجتمع العراقي.
[.. الناس صنفان؛ إما أخٌ لك في الدين أو نظير لك في الخلق” ..]
مدن مقدسة مثل؛ النجف الأشرف وكربلاء المقدسة والكاظمية المقدسة كانت تحتضن القادم من ايران، ومن تركيا، ومن افغانستان، ومن باكستان، ومن التبت، ومن كشمير، كل هؤلاء كانوا بين طالب علم، وطالب رزق، ولم يحصل أن شعر أحدهم بتمييز عنصري او مناطقي من قبل السكان العراقيين، فكان الجميع يعيشون بسلام وأمان وحب وانسجام، حتى أن جاءت الاحزاب السياسية بافكارها الوافدة من الغرب، وتحديداً؛ فكرة القومية، الراعية لكل اشكال التمييز والتفضيل، وكل ما يتسبب بتمزيق المجتمع الاسلامي الواحد، فظهر مصطلح “عجمي” بمعنى الايراني، و”كاكا” بمعنى المخاطب شخص كردي.
اراد حزب البعث في العراق زرع فكرة العنصرية في ثقافة الشعب العراقي وتحويلها الى سلوك ومنهج في حياتهم كما فعل هو في ليقدم تطبيقاً عملياً لما يجب، فهجّر العلماء والوجهاء والتجار ثم عامة الناس ممن لا يؤمن بفكرة “القومية العربية”، وأن العراق لمن هو عربي فقط، وأن “نفط العرب للعرب”!
وهذا تحديداً ما كان يريده الغرب في تلك الحقبة، لأن كل ما يدعو الى التماسك والتعاون والتكافل والايمان بسائر القيم الاخلاقية والانسانية تمثل تحدياً ماحقاً لمساعي النفوذ الى البلاد الاسلامية ونهب خيراتها وتشويه ثقافتها وتاريخها بذرائع تصدير أنماط العيش الجميل والاستمتاع بمظاهر التطور في الحياة، فلا داعي أن يفكر الانسان العراقي بالظروف التي يعيشها الانسان المسلم في باكستان او كشمير او ايران، او حتى في البلاد الافريقية.
وعندما أشاهد اليوم كيف أن المتظاهرين المحتجين في بريطانيا على السياسات العنصرية يقتلعون تمثال تاجر رقيق، جمع ثروة هائلة من استعباد البشر، ومن انتهاك كرامتهم وحقوقهم، ويرموه في النهر، وهم بمعظمهم من البيض، وليس من ذوي البشرة السمراء، أشعر بالفخر والاعتزاز لان هؤلاء استجابوا لنداء الفطرة أخيراً، كما استجاب العراقيون لهذا النداء بعد زوال صنم صدام، مادياً ومعنوياً، فعاد الناس الى سابق عهدهم قبل حوالي خمسين عاماً ليستذكروا كيف أن القومية والعنصرية أهدرت أعمارهم وأعمار آبائهم وابنائهم، وما الترسبات المتبقية عند البعض هنا وهناك إلا شاهد ودليل ادانة على حقبة الخداع والتضليل والكذب والذي لم يدم.
إن الاحداث الاخيرة في الولايات المتحدة وامتداداتها في اوربا وبلاد اخرى بالعالم كشفت عن حقيقة –من جملة حقائق- بأن من يدّعي حمل لواء المساواة والحرية الفردية، والدفاع عن المرأة والطفل، والقانون، ليس بالضرورة يكون كبيراً، إنما بالضرورة الكبير هو ذلك الذي يُحيي القيم الحضارية العظيمة التي يتطلع اليها العالم اليوم بإكبار وإجلال ويقرأ: “الناس صنفان؛ إما أخٌ لك في الدين أو نظير لك في الخلق”.