لم يُقتل الامام علي، عليه السلام في شهر رمضان الذي انتقل فيها الى الملكوت الاعلى، بل بدأت عملية قتل الإمام تدريجيا بعد وفاة الرسول الاكرم، صلى الله عليه وآله، فكانت أول ضربة سُددت الى الإمام حين تم اقصائه عن حقه الشرعي، فرسول الله خلال عشرات الاحاديث بيّن أن الخليفة من بعده هو علي بن أبي طالب، عليه السلام، يقول رسول الله: ” مَن كنتُ مولاه فعليٌ مولاه”، وقال النبي الاعظم في حديث آخر: “إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، أحدهما أكبر من الاخر، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض”، وعلي هو من العترة الطاهرة التي أخبر النبي بإتباعه، والاحاديث في أحقية علي كثيرة، ومتواترة عند الخاصة والعامة.
ولكن حين اُبعد الامام، علي عليه السلام عن هذا المقام، والذي لو تسنّمَه لما آل حال الامة الاسلامية الى ما هي عليه الآن من الذلة والهوان، حتى لا يكاد يُذكر فشل او تأخر، إلا ويضربوا المثل الادنى بهذه الامة!
فعندما تولى القيادة من ليس بأهل لها، حُرفت مفاهيم الدين عن الغايات المرسومة لها، فمعاوية جيّر الآيات القرآنية لصالحه، فكما هو متفق عليه عند جميع المسلمين، في أن الآية الكريمة {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} نزلت في حق أمير المؤمنين، علي عليه السلام، عند مبيته ليلة هجرة النبي، صلى الله عليه وآله الى يثرب.
و معاداة معاوية لأهل بيت النبوة وبخاصة للامام أمير المؤمنين علي عليه السلام لا تخفى على احد، فقد أراد هذا الطاغية من خلال تطميع بعض صحابة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله أن يلوّث صفحات التاريخ اللامعة ويخفي حقائقه بوضع الاكاذيب، ولكنه لم يحرز في هذا السبيل نجاحاً.
[.. يقول الامام المهدي، عجل الله فرجه في توقيعه: وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله.. ]
“فقد عمد سمرة بن جندب الذي ادرك عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ثم انضمّ بعد وفاته صلّى اللّه عليه وآله إِلى بلاط معاوية بالشام، عمد إِلى تحريف الحقائق لقاء اموال أخذها من الجهاز الأموي، الحاقد على أهل البيت.
فقد طلب منه معاوية باصرار أن يرقى المنبر ويكذّب نزول هذه الآية في شأن علي عليه السلام، ويقول للناس أنها نزلت في حق قاتل عليّ (أي عبد الرحمن بن ملجم المرادي)، ويأخذ في مقابل هذه الاكذوبة الكبرى، وهذا الاختلاق الفظيع الذي أهلك به دينه مائة ألف درهم.
فلم يقبل “سمرة” بهذا العرض ولكن معاوية زاد له في المبلغ حتى بلغ اربعمائة ألف درهم، فقبل الرجل بذلك فقام بتحريف الحقائق الثابتة، مسوداً بذلك صفحته السوداء اكثر من ذي قبل وذلك عندما رقي المنبر وفعل ما طلب منه معاوية”. (سيد المرسلين / المحقق السبحاني ج 2 ).
بعد تولي الامام علي، عليه السلام للخلافة الظاهرية، سعى جاهدا الى تحصين الامة من الانحرفات الثقافية والفكرية والعنصرية التي عصفت بها، خلال خمس وعشرين سنة، والتي كانت من أهم ما ورثة الخلفاء الثلاثة من سيئات لهذه الامة، ومع ما بذله أمير المؤمنين عليه السلام من جهد جهيد لانتشال ذلك المجتمع من حضيض الماديات والأنانيات، إلا انهم لم يكونوا ليفتحوا أذانهم لإمامهم وقائدهم، لانهم لم يستوعبوا بعد معنى القائد، والتسليم لاوامره ونواهيه، وهذا ما اوقع ذلك المجتمع في مطبات لم يكن ليخرج منها بسهولة، وإنما قدم التضحيات الجسام جراء عدم اطاعة القيادة الربانية، والتسليم لها.
[.. جالس الحكماء، يكمل عقلك، تشرف نفسك، وينتف عنك جهلك ..]
يقول الامام المهدي، عجل الله فرجه في توقيعه: وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله.
كما عصفت بالامة الاسلامية احداث كبيرة، كان لها الاثر البليغ في واقع المجتمع، كذلك فإن الأمة لازالت تعيش مخاضا جديدا، وهي بحاجة الى رؤية واضحة، تنير لها الطريق المظلم، وتقيم ما اعوج منها، ولهذا اوعز الامام المهدي عجل الله فرجه الشريف الى الشيعة، أن يرجعوا في متغيرات الزمان الى العلماء، فهم الوحيدون والقادرون على تخليص الناس بعون الله تعالى، شرط أن تلقى القيادة العلمائية استجابة وتسليم من المجتمع لاوامرها، وهذا ما اثبتته التجارب الحية والعملية.
فعند احتياج المحافظات الغربية للعراق من قبل قطعان داعش الوهابية، الممولين خليجيا، والمدربين امريكا، خرج مراجع الدين العظام، واصدروا فتاوي الجهاد ضد هذه الشرذمة المتوحشة، والتي لو تمكنت من الاستيلاء على كل العراق لعاثت فسادا وقتلا، كما حدث في المناطق التي سيطرت عليها، فكانت الاستجابة سريعة، وهبّ المجاهدون الى الساحات ملبين نداء العلماء، وكان ثمرة ذلك أن حُررت كل المناطق التي سقطت في أيدي الدواعش الوهابية.
يقول السيد المرجع المدرسي عن أهمية العلماء: “ومن هنا نرى تأكيد الاسلام على أهمية العلماء بالله، فأعطاهم الدرجة الفضلى في المجتمع، ورفعهم فوق المجاهدين، وجعلهم من المشفعين يوم القيامة، وفضَّلهم حتى على الشهداء، فجعل حبر القلم الذي يستخدمه العالِم في سبيل الله أرفع من دم الشهيد.
ترى لماذا يعطي الله تعالى العالِم الجالس في زاوية بيته، والمنشغل في التأليف والدراسة من الدرجات أكثر مما يعطي لذلك المجاهد في سبيل الله الذي يقتحم غمار الموت، ويخوض عباب الشهادة، ويتحمل من المصاعب والمشاق في سبيل الله؟
السر في ذلك أن العالِم يقوم بعملية مجاهدة نفسه وترويضها .. فهو عندما يصدر فتواه من خلال كتابة سطر واحد، فإن وراء هذا السطر سنين من التعب والتفكير المركّز، والتقوى المتواصلة، حتى تخرج الفتوى بشكلها النهائي، فالفقهاء عادة ما يراجعون فتاواهم بشكل دقيق، لكي لا تكون فيها كلمة زائدة أو ناقصة، وهذا العمل بحاجة الى أن يتحمل الانسان الكثير من الصعاب والمشاق.
وعلى الرغم من أن العين لاترى الصعاب التي يتحملها ذلك الانسان المجاهد، ولاترى الصعاب التي يتحملها العالِم في بيته أو حلقات درسه، إلا أن درجة العالِم هي الدرجة العليا التي لا يمكن لأي إنسان آخر أن يحرزها إلا اذا انخرط في سلك طلب العلم بإخلاص، ولوجه الله”. (المعهد الاسلامي بين الاصالة والتطوير).
واليوم والعالَم يعيش وباء الكورونا وما خلفه من تبعات لدى الكثير من دول العالم، فثلاث مئة واثني عشر ألف انسان قضوا نيجة هذا المرض، في آخر تحديث للاحصائية اثناء كتابة هذه السطور، وأكثرن من أربعة مليون وستين ألف حالة اصابة مؤكدة بهذا الفايروس التاجي، نرى كيف أن الاطباء المصدون لهذا المرض، وهم في الخط الدفاعي الاول، كيف أنهم يعانون أشد المعاناة، ويتحملون أصعب المرارات، والمئات منهم قضوا بسبب هذا المرض، إلا أن غالبية الناس لا يعرفون تلك المعاناة.
واجبنا تجاه العلماء
إن من اهم الواجبات على المجتمع المؤمن تجاه العالم، هي الاستفادة منه، والنهل من المعين الصافي الذي يحمله، فالعالم يرى الامور من زاويا يعصب في كثير من الحالات على الناس تشخصيها، والتركيز عليها، كذلك فإن مجالسة العلماء لها ابعاد أخرى، يبينها الامام علي، عليه السلام في هذه الرواية الجميلة يقول: “جالس الحكماء، يكمل عقلك، تشرف نفسك، وينتف عنك جهلك”، وروي عنه عليه السلام، أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: “المتقون سادة والفقهاء قادة والجلوس إليهم عبادة”.
كذلك فإن على المجتمع اطاعة العالِم والتسليم لاوامر، لأن العلماء هم ورثة الانبياء عليهم السلام، كما ورد في حديث شريف، ولن يتحقق ذلك حتى ننظر الى العالم الرباني على أن هو القيادة الشرعية التي تمثّل النبي الاكرم، صىلى الله عليه وآله، وأنه السائر على نهج الائمة الاطهار، عليهم السلام، ولابد أن يكون المجتمع مصادقا لهذه الآية الكريمة، التي يقول الله تعالى فيها: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً}.