أسوة حسنة

الإِمَامُ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبِ وَحُرِيَّةِ الْعَقِيدَةِ وَالْرَّأيَ الْسِيَاسِي [3]

أول مَنْ أعطى الإنسان حريته، هو خالقه سبحانه وتعالى، وأوَّل مَنْ استعبَدَ الإنسان أخوه، وأوَّل جريمة كانت ..؟؟

  • تقديم قرآني

أول مَنْ أعطى الإنسان حريته، هو خالقه سبحانه وتعالى، وأوَّل مَنْ استعبَدَ الإنسان أخوه، وأوَّل جريمة كانت قلبية من إبليس اللعين (الحسد)، ولكن أوَّل جريمة وكبيرة مادية كانت القتل حيث قتل المجرم قابيل، أخاه المؤمن هابيل، وكان السبب (الحسد) أيضاً، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}. (المائدة: 27).
فأنتَ عبدٌ أمام الله تعالى، وحُرٌّ أمام العالم ما لم يستعبِدكَ أخوك، أو أن يستعبدك هواك ونفسك الأمارة بالسوء، فالأصل في هذه الحياة الحرية للإنسان، وله الحق كاملاً في الاختيار، وحقه محفوظ في دين الله وشرعه، وذلك لأنه أعطاه العقل ليميِّزَ بين المناهج، والطُرق، ومنحه الإرادة ليستطيع الاختيار بعد تفكُّرٍ وتدبُّرٍ وتعقُّل، وعلى هذا الأساس يكون مكلفاً في حياته، ومسؤولاً عن اختياره وتصرفاته، ومُحاسباً عليها في الدنيا والآخرة، ومَنْ لم يفهم هذه الحقيقة ضلَّ عن حقيقة الإنسان وهدفه في هذه الدنيا.
وأوَّل وأعظم الحقوق هو حقُّه في اختيار عقيدته، لأنها ستعقِدُ في قلبه هو وليس غيره، قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. (البقرة: 256).
فغذا فهمنا مغزى هذا الحق يمكن أن نفهم لماذا أعطى ربنا سبحانه وتعالى كل هذه المساحة الواسعة الشاسعة لعباده في هذه الحياة، لأنه عندما خيَّره بشأن عقيدته في خالقه فمن باب أولى أن يكون كل شيء بعدها له الحرية في ذلك ما لم يعتد على حريات الآخرين من أمثاله، وهنا تكمن المُعضلة بين البشر لا سيما في هذا العصر الأغبر، حيث الحضارة الرقمية، والعولمة التي جعلت الشعوب والأمم ينصهرون في بوتقة الليبرالية، و الإمبريالية الأمريكية رغماً عنهم بكل ديمقراطية وتلك هي سياسة (الكوبوي) ورعاة البقر الأمريكية الآن، حيث يُريدون إخضاع العالم بأسره إلى سياساتهم، واتباع ثقافاتهم (سخافاتهم) واسقاطاتهم الهوليودية اليهودية.

[.. الامام علي مخاطبا الخوارج: لا نمنعكم مساجد الله أن تُصلّوا فيها، ولا نمنعكم الفيء ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نبدؤكم بحرب حتّى تبدؤونا به ..]

  • الإمام علي عليه السلام وحرية العقيدة

لم يشهد التاريخ البشري حاكماً منذ أن خلق الله سبحانه هذا الإنسان وأهبطه على هذه الأرض واستعمره فيها، أعطى الجميع حرياتهم في الرأي والعقيدة كأمير المؤمنين، الإمام علي عليه السلام، وذلك تنفيذاً لأمر الله تعالى، ولفهمه العميق لروح الإسلام وشريعته وأحكامه الراقية، فجسّد قيمة الحرية التي أعطاها الله –تعالى- للبشر، فلم يتحدَّث التاريخ الإسلامي أنه أجبر أحداً على عقيدته، حتى أولئك الذين خرجوا عليه، فخرجوا من الدِّين كما أخبر الصادق الأمين، صلى الله عليه وآله بذلك، بقوله: “إنّ بعدي من أُمّتي – أو سيكون بعدي من أُمّتي – قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم، يخرجون من الدِّين كما يخرج السَّهم من الرمِيّة، ثمّ لا يعودون فيه؛ هم شرّ الخلق والخليقة“. (صحيح مسلم: 2/750/158).
هؤلاء الأشرار الذين نَجَمَ قرنهم، وظهر شرُّهم في حكومة أمير المؤمنين، عليه السلام حتى أنَّهم كفَّروه -والعياذ بالله- إلا أنه لم يُكره أحداً منهم في عقيدته، أو يُجبره على غيرها، أو حتى تركها بل كان يصبر عليهم صبر الوالد العطُوف، على وَلَدِه العاق العنيف، فكمْ مرَّةً حَكَّموا في المسجد في صلاته، وكم فعلوها في خطبته، وإذا نادوا بندائهم كان لا يزيد عن قوله لهم: (كلمة حق يُراد بها باطل)، وحتى أن أحدهم سبَّ أمير المؤمنين عليه السلام، فأراد أصحابه أن يقتلوه فنهاهم وقال: “سبٌّ بسب أو عفو عن ذنب، وأنا أعفو عنه فدعوه“، فهل سمعت بحاكم في الدنيا يحمل هذه الأريحية تجاه أولئك العُصاة الأجلاف، والعجيب منه عليه السلام أنه كان يوصي بهم كما يقول سماحة السيد هادي المدرسي في كتابه (أخلاقيات الإمام علي (ع) حيث قال: “لم يكتفِ الإمام، عليه السلام بالعدل مع الخوارج، ومنحهم حقوقهم كاملة إبَّان الشورى، بل أوصى بهم خيراً بعد وفاته؛ فقال قولته الشهيرة: “لاَ تَقْتُلُوا الْخَوَارِجَ بَعْدِي، فَلَيْسَ مَنْ طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ، كَمَنْ طَلَبَ الْبَاطِلَ فَأَدْرَكَهُ“. (نهج البلاغة: خ60، أخلاقيات الإمام علي (ع): ص287).
وذلك لأنه؛ “لم يكن علي،عليه السلام ذلك الرَّجل الذي يُريد أن تكون له السلطة والهيمنة القاهرة التي يحبس معها الناس أنفاسهم خوفاً ورعباً، بل هو يُريد أن يحفظ الأمن، وأن يُربي الناس، ويُعلمهم، ويَهديهم سبيل الرَّشاد، والسَّداد، وأن يحكم فيهم بحكم الله سبحانه، ويُفقِّههم في الدِّين، إنه لا يُريد أن يخاف الناس منه، بل يُريدهم أن يخافوا الله سبحانه، ولا يُريد منهم مراعاة خواطره، والتأقلم مع مزاجه، بل يُريدهم أن يُراعوا التوجيه الإلهي، والحكم الشرعي، وأن يحفظوا دينهم، وأنفسهم”. (السيد جعفر مرتضى العاملي: علي والخوارج: ج1 ص146).

[.. لم يكن علي،عليه السلام ذلك الرَّجل الذي يُريد أن تكون له السلطة والهيمنة القاهرة التي يحبس معها الناس أنفاسهم خوفاً ورعباً، بل هو يُريد أن يحفظ الأمن، وأن يُربي الناس، ويُعلمهم، ويَهديهم سبيل الرَّشاد، والسَّداد ..]

  • الإمام علي وحرية المعارضة

جميل ما يقوله السيد المجاهد هادي المدرسي هنا: “مشروعية المعارضة تأتي من مشروعية وجود الإنسان ذاته، فمادام أن الله تعالى خلق كل إنسان بذوق خاص، وعقل خاص، وشهوات ورغبات مختلفة عن غيره، ولم يفرض على الناس وحدة الفكر والذوق فإن من حق الناس أن يتصرَّفوا في شؤونهم الخاصة بالشكل الذي يُعجبهم، وأن يتَّخذوا المواقف التي يختارونها، وأن يُعبِّروا عمَّا يؤمنون به، إنما في حدود معقولة وضمن إطار لا يؤدي إلى الفوضى، ولا إلى إلغاء حقوق الآخرين”. (أخلاقيات الإمام علي (ع): ص268)
نعم؛ حقوقك كاملة محفوظة، وشرفك ومكانتك، ونصيبك وسهمك من العطاء محفوظ في سياسة ودولة الإمام علي عليه السلام، فلك مطلق الحرية أن يُعبِّر عن رايك في السلطة، والسياسة، والاقتصاد، وكل شيء ولكن بشرط أن لا تتعدَّى على حقوق الآخرين، وأعراضهم، وممتلكاتهم، وهذا ما كان يقوله بحق الخوارج عليه، الذين أعلنوا الحرب وعاثوا في الأرض الفساد، فيُروى: “أنّه خطب بالكوفة، فقام رجل من الخوارج، فقال: لا حُكم إلاّ لله، فسكتَ علي، ثمّ قام آخر وآخر فلمّا أكثروا عليه، قال عليه السلام: “كلمة حقّ يُراد بها باطل، لكم عندنا ثلاث خصال: لا نمنعكم مساجد الله أن تُصلّوا فيها، ولا نمنعكم الفيء ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نبدؤكم بحرب حتّى تبدؤونا به، وأشهدُ لقد أخبرني النبي الصادق (الأمين)، عن الروح الأمين(جبرائيل)، عن ربّ العالمين: أنّه لا يخرج علينا منكم فرقة قلّت، أو كثُرت، إلى يوم القيامة، إلاّ جعل الله حتفها على أيدينا، وإنّ أفضلَ الجِّهاد جهادكم، وأفضل الشهداء مَنْ قَتَلْتُمُوه، وأفضلَ المجاهدين مَنْ قَتَلَكُم، فاعمَلوا ما أنتم عاملون فيوم القيامة يخسر المبطلون، {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}”. مسند الإمام علي(ع): ج6 ص116).
هذا منطق الإسلام الذي يحكم فيه الإمام عليه السلام، فالحريات مصانة للمعارضة، إلا المعارضة المسلحة لأنها مفسدة في البلاد والعباد، فهؤلاء هم الذين يخرجون للقتال ويُعلنون الحرب فلا بد من ردعهم عن أعمالهم، وإيقافهم عند حدِّهم ولو بقوة السلاح، لأن التغاضي عنهم فيه مفسدة عظيمة للمجتمع الإسلامي، وخطر عظيم على أمن الناس وأعراضهم وأموالهم.
فللمعارضة أن تعتقد بما تشاء، وتجتمع كيف تريد، وتجهر برأيها صراحة وبكل أريحية، فلها أن تقول في الحاكم، والحكم، ما تشاء ولكن في حدود القول لا أن يخرج إلى الفعل المُخل بأمن المجتمع الإسلامي، لأن مبرر وجود الحكومة وأساس كيانها؛ المجتمع وأولى مهامها حفظه من العوادي الداخلية والخارجية على حدٍّ سواء، فمن غير المسموح للمعارضة السياسية خلخلة المجتمع، فأين ذلك كله من ساستنا اليوم، وكل مَنْ يشتغلون في الشأن السياسي في بلادنا الاسلامية؟
إن سياسة أمير المؤمنين، عليه السلام تضمن الحقوق للجميع، وتوزع الواجبات على الجميع، والحكم مسؤولية، والوظيفة تكليف لا تشريف.

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا