-
تقديم إنساني
سبحان الذي خلق الإنسان من طين وجعل نسله من ماء مَهين، الذي قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}. (النساء: 1).
هذا هو الأصل الذي يجمع البشر كل البشر من أبيهم نبي الله آدم، وحتى آخر ولد من ولده، (إلا مَنْ أخرج نفسه بالدَّليل كدارون وأصحابه من قرود الشمبانزي)، وكل هذه الذرية تشترك في أشياء كالميول، والغرائز، والحاجات البشرية المادية الضرورية لحفظ الإنسان وبقاءه على قيد الحياة، كما أنهم يشتركون في مشتركات أخرى هي معنوية كحب التسامي، والتكامل، والنجاح، وأنه لا يحب ولا يُريد أن يكون أحدٌ أحسنَ حالاً منه، ولا أفضل منه إلا ولده في بعض الأحيان.
[ ..لَوْ شِئْتُ لاَهْتَدَيْتُ اَلطَّرِيقَ إِلَى مُصَفَّى هَذَا اَلْعَسَلِ وَلُبَابِ هَذَا اَلْقَمْحِ وَنَسَائِجِ هَذَا اَلْقَزِّ وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ وَيَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ اَلْأَطْعِمَةِ وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ اَلْيَمَامَةِ مَنْ لاَ طَمَعَ لَهُ فِي اَلْقُرْصِ، وَلاَ عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وَأَكْبَادٌ حَرَّى ..]
ويمكن أن نُلخِّص ذلك؛ أن لدى الإنسان مجموعة من القيم التي تجعل منه إنساناً، وتصْدق عليه هذه التسمية فعلاً، تلك المجموعة من القيم والفضائل هي من مقوِّمات بني آدم وهي قيمة (الإنسانية)، وهذا ما تنادي بها في هذا العصر الدولُ المتحضِّرة، والتي تدَّعي الديمقراطية، فكم قتلوا وأبادوا من البشر بهذه الدِّعاية الفارغة من مضمونها؟
وكذلك حقوق الإنسان، وحرية الرأي، والدفاع المستميت على تلك الحقوق المهدورة من قِبل الحكام المستبدين والطغاة الجبارين، فجاء دعاة الحضارة الرقمية، وأبناء الديمقراطية فقتلوا الشعوب الفقيرة والناس البسيطة لأجل تخليصهم من الدكتاتور، فأيهما أكثر إجراماً لستُ أدري؟
فالحقيقة التي صارت واضحة وضوح الشمس؛ أنهم يمارسون الحرية والديمقراطية كما هم يُريدون لا كما يُريد غيرهم، فمَنْ يُعارضهم هو ضد الديمقراطية، والحرية، وهذا ما قاله أحد المحققين في بلد عربي (ديمقراطي جداً) لأحد سجناء الرأي، حين سأله: يا أخي لماذا تسجنوني ألستم تدَّعون الديمقراطية، والحرية، وحقوق الإنسان؟
قال ضاحكاً: “نعم؛ أنت تتكلم بحرية وديمقراطية، ونحن نسجنك بحريتنا ودمقراطيتنا، فنحن عندما نسجنك نكون نمارس الديمقراطية أيضاً”، هذا هو منطق الحضارة الرقمية ورعاة الديمقراطية، لاسيما على الطريقة الأمريكية، فالرأي الذي يراه حُكام البيت الأبيض هو الذي يجب تُنفيذه بكل حرية وديمقراطية، وأما الذي لا يُنفذه فهو خارج عن القانون الدولي وضد الحرية والديمقراطية، ولا يستحق أن يعيش لأنه متخلِّف عن الحضارة الإمبراطورية المعولمة للثقافة الأمريكية رغماً عن الجميع، وإلا فانتظروا الإبادة، والمحي من الوجود كما كان يُهدد كبيرهم في بداية حُكمه البائس.
ولكن جاءت جائحة الكورونا وكشفت عوراتهم جميعاً وأظهرتهم على حقيقتهم، وأنهم مجرد لصوص وقطاع طرق في البر والبحر، وأنهم حرامية يسرقون أشدّ الضروريات من غيرهم ففقدوا الحسَّ المشترك وما نسميه بالإنسانية.
[.. أيُّ رجل مثل علي، مثل سيفه، مثل صدره، مثل صدقه، مثل نبله، مثل حدبه الوسيع، ومثل نهجه البليغ”، ثم يقول: علي “أوسع واحة يهفو إليها عطش الإنسان، إذ يلهث به تجواله عبر العصور” ..]
-
صرخة العدالة الاجتماعية
فما أحوج الدنيا والمجتمعات للعدالة الاجتماعية، ولصوت الفطرة الإنسانية!
الأديب اللبناني المعروف الذي عشق شخصَ علي، وفُتن بأدبه وبلاغته، كتب كتابه المعروف الراقي: (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية)، بيَّن فيه جوانب العظمة الإنسانية في شخصية أمير المؤمنين، عليه السلام قولاً وعملاً، وذلك لمعرفته أن الكثيرين يقولون ويُنظِّرون ولكن عندما يأتي دور العمل والتطبيق فتراهم يُخالف قولهم عملهم، وأما الأمير، عليه السلام فكان قوله وعمله متلازمان وملتزمان بالحق والصدق ولا ينفكان عنهما.
ويأخذ جورج جرداق بعض ما ذكره التاريخ عن قضايا أمير المؤمنين عليه السلام الاجتماعية التي كانت فريدة في هذه الدنيا لاسيما حين كان حاكماً لدولة مترامية الأطراف، فكان يعيش كأضعفهم، فهو الذي يقول في رسالته لابن حنيف: “لَوْ شِئْتُ لاَهْتَدَيْتُ اَلطَّرِيقَ إِلَى مُصَفَّى هَذَا اَلْعَسَلِ وَلُبَابِ هَذَا اَلْقَمْحِ وَنَسَائِجِ هَذَا اَلْقَزِّ وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ وَيَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ اَلْأَطْعِمَةِ وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ اَلْيَمَامَةِ مَنْ لاَ طَمَعَ لَهُ فِي اَلْقُرْصِ، وَلاَ عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وَأَكْبَادٌ حَرَّى“، فلعل تُفيد أنه لا فقراء، ولا جائعين في عهد أمير المؤمنين، وأما في بلاد عشاق وشيعة ومحبي أمير المؤمنين، عليه السلام فإن الفقراء والمتسولين فحدِّث ولا حرج.
وينقل جورج جرداق حاثة لها دلالة كبيرة على مدى تشبُّع الإمام بروح العدالة، متحدّثًا عنها قائلًا: “وكان الإمام يأبى الترفُّع عن رعاياه في المخاصمة والمقاضاة، بل إنه كان يسعى إلى المقاضاة إذا وجبت لتشبُّعه من روح العدالة، من ذلك أنه وجد درعه عند عربي مسيحي (وربما نقلوها عن يهودي أيضاً)، من عامَّة الناس، فأقبل به إلى أحد القضاة واسمه شريح، ليُخاصمه ويُقاضيه، ولما كان الرجلان أمام القاضي قال علي: إنها درعي ولم أبعْ ولم أهبْ، فسأل القاضي الرَّجل المسيحي: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين؟ فقال العربي المسيحي: ما الدرع إلَّا درعي وما أمير المؤمنين عندي بكاذب! وهنا التفتَ القاضي شريح إلى علي يسأله: هل من بيّنةٍ تشهد أن هذه الدِّرع لك؟ فضحك علي وقال: أصاب شريح، ما لي بيِّنة، فقضى شريح بالدِّرع للرَّجل المسيحي فأخذها، ومشى أمير المؤمنين ينظر إليه! إلَّا أن الرَّجل لم يخطُ خطوات قلائل حتى عاد يقول: أمّا أنا فأشهد أن هذه أحكام أنبياء، أمير المؤمنين يُدينني إلى قاضٍ يقضي عليه! ثم قال: الدِّرعُ والله درعك يا أمير المؤمنين، وقد كنتُ كاذبًا فيما ادّعيتُ، وبعد زمن شهد الناس هذا الرَّجل وهو من أصدق الجنود، وأشد الأبطال بأسًا وبلاءً في قتال الخوارج يوم النهروان، إلى جانب الإمام علي”.
هذه واحدة ربما من عشرات إذا لم تكم من مئات القضايا المنقولة عن مشرِّع العدالة وحاميها، ولذا كانت هذه اللَّفتات الراقية في سيرة ومسيرة أمير المؤمنين، عليه السلام جعلت الرجل المسيحي يكتب عدداً من الكتب عن الإمام علي، عليه السلام وكلها راقية جداً من الجوانب الأدبية والأخلاقية الإنسانية.
-
صوت الإنسانية
صوت الإنسانية هو صوت الفطرة، هو صوت الصفاء، والنقاء، والضمير الإنساني في بني البشر، وهذا ما جذب الكثير من الأدباء، والشعراء، وأصحاب الضمائر الحرة في هذه الأمة العربية وغيرها من شعوب الأرض، فهذا الأديب (سليمان كتاني) يرفع الإمام عن الرِّجال قائلًا: “أيُّ رجل مثل علي، مثل سيفه، مثل صدره، مثل صدقه، مثل نبله، مثل حدبه الوسيع، ومثل نهجه البليغ”، ثم يقول: علي “أوسع واحة يهفو إليها عطش الإنسان، إذ يلهث به تجواله عبر العصور”.
وأما (نصري سلهب) فيرفع الإمام إلى القمَّة، ويجعله مثالًا، متخطيًا قومه، ومقيمًا في ضمير كل إنسان، إذ يقول: إن الإمام قد بلغ “قمَّة المستوى الإنساني، فما هو بعربي يتحدّث إلى عرب، ولا بمسلم يحدّث مسلمين، إنما هو مفكّر مؤمن يخاطب البشر، جميع البشر”.
ويقول بهذا المعنى: إن الإمام “ليس لقوم دون آخرين، بل هو للدنيا بأسرها، لا زمان يحتويه ولا مكان، هو أمير المؤمنين، جميع المؤمنين مسيحيين ومسلمين، لأنه عاش إيمانه في أعماقه والروح، وقلَّما نلتقي في أروقة التاريخ بشرًا كعلي، قوله والفعل صنوان. لقد كان المثال والقدوة، وسما حتى عجز الناس عن اقتفاء أثره، والسير على خطاها، فأتحف الإنسانية بعطاء روحي وفكري قل له نظير”.
ومن أبلغ كلمات سلهب دلالة على قوة العامل الإنساني في شخصية أمير المؤمنين عليه السلام حين تحدّث عن الإمام قائلًا: “عليٌّ حيٌّ في خاطر كل إنسان، مقيم في ضمير كل إنسان، نابض مع قلب كل إنسان، تخطى الزمان والمكان، والقومية، والدِّين، وسما وارتفع حتى غدا ملك الإنسانية جمعاء، ذلك أنه تجسيد للإنسان المطلق”.
وقال فيه الشاعر بولس سلامة في ملحمته الشهيرة “الغدير”:
هو فخر التاريخ لا فخر شعب *** يدَّعيه ويصطفيه وليا
لا تقل شيعة هواة عليٍّ *** إن في كل منصف شيعيا
سفر خير الأنام من بعد طه ** ما رأى الكون مثله آدميا
يا سماء اشهدي ويا أرض قرِّي ** واخشعي، إنني ذكرتُ عليا
وأذكر أنني ذات يوم كنتُ أتحدَّث مع سماحة السيد المجاهد هادي المدرسي (حفظه الله) عن الإمام علي، عليه السلام وهو الذي طالما كنتُ أحبه أن يتكلم عن أمير المؤمنين فكان (يُحلِّق) كما وصفه شقيه السيد أبو جواد لي أيضاً، لأن جناب السيد هادي عندما يتحدَّث عن أمير المؤمنين تراه وكأن روحه تتحدث، فقلت: صدق الشاعر حيث يقول:
عليُّ الدُّر والذَّهب المصفَّى ** وباقي الناس كلهم تراب
فقال: أي دُر وأي ذهب مصفى أبو علي، وهي كلها حجر كما هو يصفها، فهذا علي؟!
نعم؛ هو العلي الذي فوق العُلى رفعا.
السلام عليك سيدي ومولاي يا رمز الإنسانية، وصوت العدالة الاجتماعية يا علي بن أبي طالب.