المتأمل في هذه الدنيا يجد في الحقيقة والواقع؛ أن الإنسان هو محور هذا الكون، ومن ثمّ فهو أساس الحضارة كلها، فالحضارة من صنع الإنسان ولخدمته أيضاً، ونعني بالإنسان؛ الفرد العاقل، الرَّاشد، المُكلَّف، ثم يأتي إنسان المجتمع، ويبدأ من الخليَّة الأولى فيه؛ وهي الأسرة، ثم يتدرَّج بالاتساع إلى العائلة، والبلد، ثم إلى القارَّة، فالعالم أجمع، ولذا نجد أن الإسلام العظيم يطرح في قرآنه الحكيم مسألة العالمية، ويتعداها إلى الكونية، لا العولمة الفاسدة المحدودة التي يكون هدفها استغلال الآخرين وفرض عليهم ما لا يُريدون من ثقافات خاصة.
فالحضارة والفكرة تنبتُ في فكر فرد عالي الهمَّة، وهو يعيش في أسرة صغيرة، تنتمي إلى مجتمع بشري، يُحاول تحريكهم بعد إقناعهم بفكرته الحضارية، ليكونوا له مدداً، وعوناً، وذخراً وذخيرة في تطبيق فكرته في واقعهم الضيِّق أولاً؛ ثم لينتقل بهم إلى ما حوله من المناطق والبلدان.
ولذا ترى سورة العنكبوت المباركة انطلقت من ذات القاعدة لتؤكد على هذه الفكرة الحضارية، حيث يقول ربنا سبحانه: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {8} وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ}. {العنكبوت: 9}.
[.. إن أصعب الحالات التي تعترض الإنسان هي
مقاومة المجتمع الذي ينشأ فيه ..]
فالقضية هي أنتَ، والقصة تبدأ منك أيها الإنسان، وأنتَ لم تنبتْ من الأرض، أو تسقط من السماء، بل أنتَ وُلدتَ من وَالدَين لك، ولهما حقٌّ عليك، والمثَل ُالشعبي عندنا يقول: “مَنْ لا خير فيه لأهل لا بارك الله فيه، ولا خير فيه”، وتأكيداً لهذه الحقيقة كل الأنبياء عليهم السلام، بُعثوا في أقوامهم وبين أهلهم، ليكونوا معروفين لا مجهولين، وكان يُسميهم {أخاهم}، كقوله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا}. (الأعراف: 65)، وقوله سبحانه: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا}. (الأعراف: 73)، وقول تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا}. (الأعراف: 85)، وقصَّة يوسف وإخوته أشهر من أن تُذكر في هذه العُجالة، فالحقيقة الاجتماعية هنا تؤكد بأن الأنبياء عليهم السلام، والمصلحين يجب أن يكونوا من أبناء المجتمع الفاسد الذي يبعثهم الله لإصلاحه، ولذا نهيب ونؤكد على دراسة تاريخ وسيرة نبينا العظيم، صلى الله عليه وآله وبني هاشم الأكارم لأن السلطات الأموية، ثم العباسية شوَّهوا تلك الصورة الناصعة.
فالسورة المباركة انطلقت من أقرب الناس إليك من والديك وأهلك، لتبدأ منهم دعوتك كما بدأ رسول الله، صلى الله عليه وآله من بيته كعلي وخديجة عليهما السلام، ثم أمره الله سبحانه بقوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}. (الشعراء: 214)، والعجيب أنك تقرأ في كتب القوم وتفاسيرهم زيادة تقول: {وَرَهْطَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِين} (كما في صحيح مسلم وغيره)، ويقول النووي: “أنها كانت قرآنا نسخ تلاوته”، فدعا رسول الله، صلى الله عليه وآله بني عبد المطلب خاصة وكانوا أربعين كما في الروايات المعروفة.
وهكذا موسى وعيسى عليهما السلام، أرسلوا إلى بني إسرائيل أولاً، فأهلك هم أحقُّ الناس بالفائدة منك، وبك إذا كنتَ ذو فائدة مرجوَّة، وهنا تعجب من أولئك الجفاة الغلاظ الذين يتقوَّلون على رسول الله صلى الله عليه وآله، وأهل البيت الأطهارعليهم السلام بأقوالهم: أنهم لا يُفيدون آباءهم في الآخرة؛ {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}. (الكهف: 5).
نعم؛ خيرك لوالديك، ولكن لكل شيء حدٌّ يقف عنده، فإذا تعدَّى حدَّه يجب أن يُوقفَ بوجهه، ويُقاوم حتى يعود ويعتدل، ولذا يقول سماحة السيد المرجع المدرسي: “إن أصعب الحالات التي تعترض الإنسان هي مقاومة المجتمع الذي ينشأ فيه، وهنا يشير القرآن الحكيم إلى أن الله يطلب من الإنسان أن لا يجعل والديه مبرراً لتنازله عن مسؤوليته، بالرغم من ضرورة الإحسان إليهما والاهتمام بهما}. (من هدى القرآن، ج6، ص: 402).
وذلك لأن الإنسان له استقلاله حتى في الدِّين والعقيدة {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، وله حقَّه في أن يختار ما يشاء بالإرادة التي منحها له الباري تعالى، والعقل الذي كرَّمه به، فالإنسان مخلوق مميَّز عن كل المخلوقات، وله مكانته المحورية فيها، بالعقل والإرادة، قال الخالق سبحانه مبيِّناً هذه الحقيقة التي كادت أن تضيع في عصر السرعة الرقمية، وحضارة الديجتال وثورتها الكبرى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}. (الإسراء: 70).
-
الكرامة محور حركة الإنسان
يقول المرجع المدرسي: “إن العوامل المحركة للتأريخ عديدة؛ والتي تؤثر بصورة مباشرة أو غير مباشرة في حركة الأُمم وفي صعود مجتمع وسقوط آخر، تتصل جميعاً بالنزعات المؤثرة في الذات الإنسانية، كما إن تأثيرات هذه العوامل تختلف من أُمة إلى أخرى، بل ومن شريحة اجتماعية معينة إلى شريحة أخرى.
فالإنسان عبارة عن تركيب معقد، كما تقول الآية الكريمة: {وَكانَ اْلإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}. (الكهف: 54)، والجدل هنا يعني اللفَّ والالتفاف، وهو ليس بالكائن البسيط بوجه من الوجوه كما يسعى البعض أن يُعرِّفه، بل فيه نزعات مادّية، وروحية، وعاطفية، وفكرية، وإن كل نزعة من هذه النزعات لها خلفياتها الخاصة وأجواؤها الخاصة.
فهناك الحاجة إلى الطعام والمأوى والجنس، وهناك نزعة الحسد والتنافس والبحث عن القدرة والقوة، وهناك الطموح إلى التكامل المعنوي والعلم والوصول إلى القمم السامية، كما أن هناك عواطف وعصبيات وحميات وغير ذلك، والإنسان خليط من عشرات النزعات، وعشرات الطموحات وعشرات التطلعات وعشرات الحميات.
[ .. الإنسان ليس ذاك المخلوق الضاحك، أو العاقل، أو المفكر، أو الذي يمشي على رجلين قائماً، أو غير ذلك مما يُطلقون عليه بل هو هؤلاء جميعاً وزيادة عليها كلها هو مخلوق مُكرَّم من خالقه بالعقل والإرادة التي يُمكن له فيها الفعل والتَرك ..]
“فالعاطفة، والمادة، والعقل، والروح، كلها تتصارع وتتنافس في إطار السيطرة على الإنسان، وفوق هذه وتلك هناك الكرامة الإنسانية، والإرادة الحرّة المالكة بإذن الله لحركته، فإن سيطرت نزعة من هذه النزعات على الإنسان الفرد، أو الإنسان المجتمع، كان لها أن تصبغ حياته الفردية أو الاجتماعية بصبغتها وأن تدفعه باتجاه نتائجها”. (الإنسان وآفاق المسؤولية، ص: 80).
فالإنسان ليس ذاك المخلوق الضاحك، أو العاقل، أو المفكر، أو الذي يمشي على رجلين قائماً، أو غير ذلك مما يُطلقون عليه بل هو هؤلاء جميعاً وزيادة عليها كلها هو مخلوق مُكرَّم من خالقه بالعقل والإرادة التي يُمكن له فيها الفعل والتَرك، وهو مسؤول عن أفعاله كلها ومحاسب عليها.
والبشر، كل البشر، وكل إنسان فيه نزعة أصيلة مغروسة في طينته، ومعجونة في تربته، ألا وهي نزعة الكرامة، وحب الرُّقي والارتفاع والسُّمو في نفسه، وبكل ما يُحيط به في هذه الحياة، وهي نزعة من أهم وأعظم نوازعه التي كادت أن تقضي عليها الحضارة الرقمية في هذا العصر.
-
نزعة الكرامة الإنسانية
يقول المرجع السيد المدرسي موضحاً: “إن النزعة الإنسانية التي نجد دورها الأساس في حركة التأريخ البشري عموماً هي نزعة الكرامة الإنسانية، وإن الإنسان كان عبر التأريخ يتحدى مَنْ يريد إذلاله، وإهانته، وسلبه حقوقه، وفرض الهيمنة عليه، وسحق شخصيته.
فإذا قرأنا التأريخ من بدايته وحتى عصرنا الحاضر، وبالخصوص التأريخ الذي يسرده علينا كتاب ربنا وهو المهيمن والبصير بالحركة البشرية؛ تأكد لنا أن حركة الصراع كان محورها وحسم مصير الكرامة الإنسانية، سواء من قبل الطاغوت المدجّج بالسلاح، أو من قبل الإنسان المستضعف الأعزل عن السلاح، والباحث عن وسائل صيانة شخصيته، كما يُبيِّن السَّرد القرآني لقصة التاريخ، ولاستلهام العبرة بعد الكشف المبين للقارئ المتدبر في آياته، حيث أن نهاية كل صراع تأريخي كانت لصالح الإنسان المستضعف الأعزل عن وسائل القوة، وأن الهزيمة الساحقة يجرّ أذيالها الطاغوت المالك للقوّة، والإرهاب، والمكر، والتقنية.
ومن أبعاد الرحمة القرآنية بالبشرية أنها تُبيِّن لنا، بعد استعراض قصص التأريخ، أن المظلوم والمستضعف هو الذي ينتصر، شاء الظالم المستكبر أم أبى، وأن الحكمة من هذا القانون الصارم هو إعلام البشرية جمعاء بأن الله الذي خلق السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما قد أراد، ولا رادَّ لإرادته، ولا معقّب لحكمه بأن ينتصر المظلوم، ليقول الله للناس أنه لا يحق لهم التكبر على الآخرين مهما بلغت قوتهم وقدرتهم، وذلك لأن الله جلّت قدرته هو الأقوى والأقدر، وأن الكبرياء لا يحق لغيره، وقد جاء في الحديث القُدسي عن رسول الله {صلّى الله عليه وآله}، قال: يقول الله: {الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما ألقيته في ناري}. {مستدرك الوسائل، للميرزا النوري، ج 12، ص 31}
وعليه فإن فرعون، وهامان، وقارون، وسائر الظَّلمَة في الماضي، والحاضر، والمستقبل، محكومون بقانون الهزيمة، والموت، وأن من ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون، حيث جهنم وبئس المصير”. (الإنسان وآفاق المسؤولية، ص: 85).
وما فرعون إلا مثالاً لحضارة الفراعنة التي مازالت أعلامها قائمة إلى اليوم تدلُّنا على حضارتهم الرَّاقية بالبناء، والطب، والصيدلة وغيرها من العلوم العجيبة فبعضها مازال سراً إلى اليوم رغم كل هذا التطور العلمي الهائل في عصرنا هذا، وكذلك هامان الذي رفع البنيان في تلك الحضارة وأراد الوصول إلى إله موسى عليه السلام، وأما قارون فهو مثال لأصحاب الأموال، وتكدس الثروات، وكم من أمثال قارون في هذا العصر، ولكن تكديسهم أرقام في حسابات البنوك فقط، لو فقهوا حقيقة الدنيا وفهموا معنى أن كل ما لديهم يبدأ من الواحد وما تبقى أصفاراً لا قيمة لها لولا الواحد.
فالإنسان الرَّاقي الحضاري؛ هو {المؤمن، الذي يَعْمل الصالحات} كما في السورة المباركة، هو أساس المجتمع البشري، وهو غايته لأنه المخلوق المكرم من الله، فجعل الأشياء لأجله، وأما هو فهو لأجل الله تعالى، واختصه بعبادته وطاعته كرامةً له قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ *مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ}. (الذاريات: 57).