-
نظرة في الأعماق
إذا أردنا أن ننظر إلى سور القرآن الحكيم بالعمق البعيد الذي تحتويه، علينا أن ننظر بنور الله، وذلك لأن القرآن الحكيم كلام الله –تعالى- وهو الخالق لهذا الخلق، فعظمة القرآن هي من عظمته، تبارك وتعالى، ومهما تعملق الإنسان، وحاول الغوص في الأعماق، والتعالي إلى الفضاء، فإنه لن يتجاوز الحدود المحدودة له، لأنه محدود في الزمان والمكان والجسم والإمكانيات، ولا يستطيع أن يخرج من جلده، أو فكره إلا بالخيال، والوهم، وكل هذه القوى تخدم الإنسان ولكن لا توصله إلى الحقيقة، لأنه مبني على النقص، ويُريد أن يتحدَّث عن الكمال فكيف له ذلك؟
فالقرآن الحكيم قريب منّا لمساً، وبعيد عنا مسَّاً، نأخذه بأيدينا، ونتلوه بأفواهنا وهذا من فضل الله وكرمه علينا، ولكنه في الحقيقة والواقع أبعد ما يكون من تناول العقول القاصرة لمعانيه الرائعة، وربما هذا ما يُمكن فهمه من مفتتح سورة البقرة المباركة، حيث يقول سبحانه: {ألَم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}.
فـ{ذَلِكَ} إشارة للبعيد عن العقول، لا للبعيد عن الأيدي والتناول، كما فَهِم بعض القُصَّر، فتاهوا عن معناه وهم يُحاولون تفسيره فقالوا: “هو اللوح المحفوظ”، وأنَّى للخلق أن يتناولونه، وهو في المحلِّ الأعلى، حيث اللوح، ولهم نسأل: أليس القرآن الحكيم كان في اللوح المحفوظ ثم نزل إلى البيت المعمور، وتنزَّل بعدها على الحبيب المصطفى خلال ثلاث وعشرين سنة؟
وهناك من أهل التقصير قالوا: “أنه التوراة، أو الإنجيل”، وهذا من أعجب العجب من هؤلاء الذين يريدون أن يُرجعوا الأمة الإسلامية إلى الأمم السابقة، والأمم السابقة تتمنى وستلحقها هي وأنبياءها في آخر الزمان، ولكن يأتون إلى القرآن الحكيم وأذهانهم محشوَّة بالإسرائيليات فلا يستطيعون الفكاك منها، والانفصال عنها، هذا إذا أحسنا الظن فيهم، لأن حقيقة أكثرهم أنهم ما دخلوا الإسلام إلا مكيدة وغدراً ليدسّوا فيه السموم الفكرية والعقائدية، و ليشوهوا على الناس دينهم.
وهؤلاء كانوا منذ الأيام الأولى للإسلام، وفي بدايته حيث كانوا يتركون رسول الله، صلى الله عليه وآله، ويذهبون إلى اليهود ليسألوهم عنه وعن أوصافه ورسالته، وهل سينتصر أم لا؟! ثم يأتوا بتلك الذهنيات إلى رسول الله فينهاهم، ويحذرهم، ويغضب منهم، ولكن كانوا مُصرّين على النهل من الثقافة اليهودية والتراث الإسرائيلي المزيف، ليفسروا به آيات القرآن الحكيم، ومازالوا كذلك للأسف الشديد، فأصحاب الدعوة السلفية يريدون دس الإسرائيليات بالقوة في أذهان المسلمين وكتبهم، كما نرى ونعيش في هذا الزمان، رغم أنها كلها تخالف العقل والنقل وآيات القرآن الحكيم نفسه.
[.. القرآن الحكيم قريب منّا لمساً، وبعيد عنا مسَّاً، نأخذه بأيدينا، ونتلوه بأفواهنا، ولكنه في الحقيقة والواقع أبعد ما يكون من تناول العقول القاصرة لمعانيه الرائعة ..]
وذلك لأن السلطة القرشية الأولى أبعدت الأمة عن أهل البيت، عليهم السلام، لاسيما أمير المؤمنين، عليه السلام، وهو عِدل القرآن، وصنو النبي، الذي كان يقول لهم: “سلوني عن القرآن أخبركم عن آياته فيمن نزلت وأين نزلت”. (عيون الأخبار: 2 – 67).
وعن سليم بن قيس قال: “خرج علينا علي بن أبي طالب، عليهم السلام، ونحن في المسجد فاحتوشناه (أحطنا به)، فقال: سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني عن القرآن، فإن في القرآن علم الأولين والآخرين، لم يدع لقائل مقالا، ولا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم: وليسوا بواحد، ورسول الله، صلى الله عليه وآله، كان واحدا منهم، علّمه الله، سبحانه، إياه، وعلمنيه رسول الله، صلى الله عليه وآله، ثم لا يزال في عقبه إلى يوم تقوم الساعة، ثم قرأ: {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ}، فأنا من رسول الله، صلى الله عليه وآله، بمنزلة هارون من موسى إلا النبوة، والعلم في عقبنا إلى أن تقوم الساعة، ثم قرأ: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}. (سورة الزخرف، الآية28).
ثم قال، عليه السلام: “كان رسول الله عقب إبراهيم، ونحن أهل البيت عقب إبراهيم، وعقب محمد، صلى الله عليه وآله”. (بحار الأنوار: ج 24 ص179 عن كنز الفوائد: 290).
ولكن السلطة ورجالها كانوا لا يُريدون أمير المؤمنين، عليه السلام، إلا عندما تَعضلهم المسائل، وتُشكل عليهم فيلجؤون إليه اضطراراً لا اختياراً، ويتركوه بعدها فريداً وحيداً، كبئر مُعطَّلة، وقصرٍ مشيد، فتركوا البئر المترعة بالماء الزلال، وعَمَدوا إلى ماء آسِن، وآخر آجِن ينهلوا منه! وهجروا القصر المشيّد العالي وسكنوا في خيام بالية كعادة أجدادهم من أهل الوبر في الجاهلية، وراحوا يجرُّون الأمةَ إلى جاهليتهم تلك من جديد بعد أن أنقذهم الله منها ببركة محمد وآل محمد، صلوات الله عليهم.
-
مشوار تدبري طويل في سورة العنكبوت
وفي الحقيقة والواقع وفي هذا العصر العلمي، والتقدم التقني الهائل، الذي مَكَّن الأمة من اكتشاف كنوزها العلمية، وتراثها العلمي الكبير الذي سَلِمَ من المحرقة، أو المقصلة التي ابتلي بها العلماء وكتبهم وتراثهم، فرأينا وسمعنا عن أكثر من ألف تفسير كامل، مطولٍ أو مختصر، هذا عدا عن العشرات التي لم ترَ النور كتفسير العلامة الحُجة السيد عبد الحسين شرف الدِّين، وتفسيري للقرآن الحكيم الذي كتبتُه في أكثر من سنتين ونصف وبلغ أكثر من عشر مجلدات، وبقي في البيت الذي سرقه ونهبه قطعان الظلم والظلام الصهيووهابية المجرمة في عام 2012م في ضاحية القابون من مدينة دمشق الشامية العريقة.
في ذلك البحث الذي كتبته وكنتُ أحذر أن اسميه تفسيراً، بل تفكُّراً، وتدبُّراً، وتأمُّلاً في كتاب الله الحكيم وسوره وآياته المباركة، لعلمي ويقيني أنه بعيداً عن أن تناله العقول القاصرة، والأفكار البائرة من أمثالي من البشر، ولكن انطلقتُ فيه بعد رحلة طويلة وجميلة بل رائعة مع المرجع الكبير، والمفكر القرآني الجدير، السيد محمد تقي المدرسي، دام عزه، في دروسه القرآنية، وكتبه الفكرية التي كانت كلها من أصول قرآنية، ثم تفسيره الراقي؛ “من هدى القرآن” الذي قرأتُه عدة مرات لاسيما حين شاركتُ الأخوة في تحقيقه، قبل طباعته في طبعته الأخيرة المنقحة، والمحققة، والمصححة، فربما يصدق عليَّ -في هذا المقام- أنني عشتُ على تلك المائدة القرآنية بضيافة سماحة السيد المدرسي خاصَّة.
[.. رغم أن رسول الله، كان ينهاهم، ويحذرهم، ويغضب منهم، ولكن كانوا مُصرّين على النهل من الثقافة اليهودية والتراث الإسرائيلي المزيف ليفــــــسروا به آيات القــــــرآن الحـــــــكيم، ومازالــوا كذلك للأسف الشديد .. ]
فكان يفيضُ عليَّ ولا يبخل، وكنتُ عطشاناً جداً فأنهل منه ولا أرتوي إلى الآن مازلت كذلك، وأسأل الله –تعالى- أن يُديمه علينا ذخراً وذخيرة، ويُديمَ عطشي لآيات القرآن الحكيم وعلومه، لأن فيها النور والهداية التي لا تُطلب من غيرها فهي الطريق الحصري إلى الله تعالى.
فكنتُ من تلك الأيام وخصوصاً في شهر الله المعظم، شهر رمضان، وشهر القرآن أحرص على التفكر والتدبر في آياته الحكيمة كما كان يوصينا سماحة السيد المرجع، فكنتُ أتساءل مع نفسي عندما نُحيي ليالي القدر المباركة في مسجد الإمام الحسين، عليه السلام، حيث كان لها أجواء خاصة مفعمة بالروحانية؛ لماذا ندبنا أئمتنا، عليهم السلام، لتلاوة سورتي؛ الروم، والعنكبوت، في تلك الليالي الشريف؟
فطالما قرأتُها وتمعَّنتُ فيها فتفتَّحت لي منها كنوز تحتاج للكثير من الأيام لكتابتها، وتدوينها، وتصحيحها في قراطيس، ولكن رأيتُ فيهما؛ أنهما “خُلاصة الحضارة الإنسانية”، فكنتُ اسمي سورة العنكبوت خاصة، سورة “فلسفة الحضارة”، وهذا ما أشار إليه سماحة السيد المرجع في تفسيره لها بشكل جميل، ولكن مجمل فيما يُسميه “الإطار العام للسورة”، وربما نُسميه “مقاصد السُّورة”، حيث يقول متسائلاً أسئلة تُلخص حقيقة الحياة الدنيا وغايتها:
“ما هي الدنيا؟ وما هي حقيقتها؟ وما هي علاقات أبنائها ببعضهم؟ وما هو مصيرها؟ وما هي مسؤوليتنا فيها”؟
إن عشرات من الأسئلة ترتسم يومياً في أذهاننا ونحن نُصارع ظواهر الدنيا، ونجدُ في الذِّكر الحكيم بصائر جليَّة تهدينا ليس فقط إلى الحقائق، وإنما ترفع الستائر الغليظة التي لا تدعنا نرى الدنيا على حقيقتها، ولعلنا نجد منظومة متكاملة لهذه البصائر هنا في سورة العنكبوت.
ويبدو أن الهدف الأسمى من هذه البصائر التي تجلو بها الأفئدة الزاكية، بناء المؤمن الصابر الذي يتحدى كالجبل الأشم عواصف الفتن.
لقد شاهدنا عبر “الطواسين” التي سبقت سورة العنكبوت، كيف جاهد رُسُلُ الله الأمم الفاسدة، وكيف ينبغي أن يسير على هداهم الصالحون الذين يجاهدون الفساد، ويصبرون على الأذى، وينتظرون نصر ربهم، وهو كما يبدو موضوع هذه السورة”. (تفسير من هدى القرآن: ج6 ؛ ص391)
نعم؛ هذا هو الإطار العام للسورة -الحضارة الإنسانية- وهي صراع شديد ومستحكم بين الأنبياء والأوصياء والمصلحين، و الطغاة والجبارين والأشقياء من أتباع الشياطين، وتلك هي خلاصة المسيرة البشرية من أبينا آدم، عليه السلام، وحتى الرسول الخاتم، صلى الله عليه وآله، الذي تختص بسيرته وانتصاره العجيب؛ سورة الروم المباركة، وهنا الرَّبط بين السورتين المباركتين، وسرُّ تلاوتهما في ليالي القدر المباركة -على ما يبدو- لتُنَبِّهَنا إلى مضامينهما الرَّاقية جداً، وإلى ضرورة دراستهما في كل منعطف من منعطفات المسيرة الإنسانية، وفي وقت الانحرافات الخطيرة كما نشهده في هذا العصر الأغبر، حيث تعملقت المادة وطغى البشر حتى جحدوا رب العالمين، و “قتلوا الإله”! بزعمهم، كما قال سفيههم شططاً؛ ذاك المسخ اليهودي “دوكنز” في كتابه “وهم الإله”.
وسنحاول في هذه السلسلة من المقالات أن نتدبَّرَ في آيات هذه السورة المباركة بما يُفيضه علينا البارئ سبحانه من فتوحات نورانية، تجعلنا نتلمَّس معاني القرآن الحكيم العميقة جداً، ومبانيه الإنسانية الراقية أيضاً، وربما نجد بعض الحلول لما نحن فيه من شتات، وضنك في الحياة.