الدرس الثالث من دروس التدبر لسماحة المرجع المدرسي في سورة (إبراهيم) شهر رمضان المبارك / 1441 هـ –
يستحبّون الحياة الدنيا
بسم الله الرحمن الرحيم
[اللَّهِ الَّذي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ وَيْلٌ لِلْكافِرينَ مِنْ عَذابٍ شَديدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَة وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيد] (3)
منطلق البناء المعرفي الذي يرسم القرآن الكريم لنا ملامحه هو التوحيد، فبمعرفته عزّوجل نعرف دينه، وأنبياءه وحججه، ونعرف كذلك أنفسنا والحقائق المحيطة بنا، ومن دون معرفته تعالى تبقى كلّ هذه المعارف الأخرى غير مكتملة، بدءاً من معرفة النفس فمن لم يعرف الرب سبحانه وتعالى لا يعرف نفسه، يقول ربّنا تعالى: [وَ لا تَكُونُوا كَالَّذينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ]
وحين لا يعرف الانسان ربّه تراه يتعلّق بكلّ العلائق المادّية من حوله، فتراه يصبح عبداً للمال أو القدرة أو الطاغوت، أمّا ذلك الذي يعرف ربّه ويتمثّل حقيقة العبودية في نفسه فإنّه لن يُصبح عبداً لغيره، ومن هنا فإنّ أوّل الدين معرفته، وبذلك يعرف الحقائق المختلفة ويحدّد نوع العلاقة التي تربطه مع الطبيعة من حوله، يقول ربّنا تعالى:
[وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً]
فالتوازن والاعتدال والحكمة، كلّها صفات يتّصف بها عباد الرحمن نتيجة عبوديتهم للخالق المتعال.
ربّنا سبحانه وتعالى بعد أن بيّن أنّه أنزل الكتاب الى رسوله ليُخرج الناس من الظلمات الى النور بإذن ربّهم يُبيّن منتهى ذلك المسير فيقول: [إِلى صِراطِ الْعَزيزِ الْحَميدِ (1) اللَّهِ الَّذي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ]
فالمسير الى الله تعالى العزيز الحميد الذي له ما في السماوات والأرض، وبذلك تتحدّد العلاقة بيننا وبين سائر الموجودات وهي الخِلقة.
[وَ وَيْلٌ لِلْكافِرينَ مِنْ عَذابٍ شَديدٍ]
لا يجوز لنا نحن البشر ان نتكئ على رحمه اللّه و ننسى عقابه، و نأمن من انتقامه، لان تجربتنا في الحياة كشفت لنا عن وجود الآلام و المآسي الى جانب البركات و الرحمات، و لكن بالرغم من ذلك نجد البعض يغترون بالجانب المخملي من الدنيا. لأنهم يفضّلون العاجلة على الآخرة، فلو تساءلنا عن الكفّار الذين لهم عذابٌ شديد، يُجيبنا القرآن الكريم بقوله:
[الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَة]
اولئك الذين يتوقّف علمهم في حدود الدنيا وينخدعون بها، ويجعلون كلّ اهتمامهم في اطارها، ولأنّهم لم يصلوا الى الحقيقة بأنّ هناك عوالم أخرى تنتظرنا لكنّهم بسبب عدم ايمانهم ليس فقط هم لا يؤمنون بها بل:
[وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه]
إن الكافر الذي حليت الدنيا في عينه، لا يردعه عن الشهوات و المصالح دين، فاذا علم ان مصالحه تتعارض و تعاليم الدين فسوف يعارضها.
[وَيَبْغُونَها عِوَجا]
إنّهم يريدون الدين للدنيا، دينٌ يُدعّم مصالحهم ويبرّر لهم فسادهم.
[ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيد]
فمنتهى الخروج من الظلمات الى النور هو أن يُصبح المرء جليس الرب، أمّا منتهى طريق الكفّار هو الضلال البعيد والعذاب الشديد.