كثيرة هي الشبهات التي اُثيرت وتثار حول الدين والمتدينين، وكلها تحاول تجريد الانسان من معتقداته التي يؤمن بها، لجرّه الى افكار مناوئة، تسبب له الحيرة والضلالة
ومن الشبهات التي تثار: كل انسان حر فيما يعتقد فلماذا لا تدعوه أيها- المتدينون- ليختار ما يشاء من فكر وثقافة؟
إن هذا الكلام في ظاهره جميل، وصحيح أن الانسان يحب أن لا يُجبر على شيء، ولكن هل الحرية شيء مطلق تماما ؟
فهل حرية الانسان مطلقة في الاختيار في الاعتقاد بما يشاء؟
وبحالة عقلائية هل المعتقد شيء في داخل الإنسان فقط، أم أنه يدعو الإنسان الى ترجمة ذلك إلى سلوك ومواقف؟
ولماذا كل المجتمعات البشرية تضع نظاما تعليميا، وتعلّم الأجيال القادمة وفق منظومة فكرية معينة؟
فإذا كان حر بأن يختار فلماذا لا يُترك للاختيار -وحسب تعبيرهم- لماذا هذا التلقين؟
إنّ مجموعة المعتقدات الخاطئة، إذا اُعتنقت فسوف تسبب مجموعةً من السلوكيات التي تضر بالمجتمع، ونأتي بمثال، ليس في مجتمعنا، لأن مجتمعنا مبنيٌ على أساس المعتقد الديني، لكن حتى في المجتمعات المنفتحة، فإن العقلائية موجودة عندهم حتى لو كانت لا تؤمن بالدين ولا تؤمن بالله تعالى، فإن لديها مجموعة خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها.
مثالٌ على ذلك “كو كلوكس كلان”، هو اسم يطلق على منظمات عنصرية متطرفة في اميركا تتخذ من الدين المسيحي غطاءاً لها، ومنها لا يزال يعمل حتى اليوم، تؤمن هذه المنظمات بالتفوق الأبيض، ومعاداة السامية، وبالعنصرية، ومعاداة الكاثوليكية، تعمد هذه المنظمات عموما لاستخدام العنف والإرهاب وممارسات تعذيب كالحرق على الصليب لاضطهاد من يكرهونهم مثل الأمريكيين من ذوي البشرة السوداء، وغيرهم.
[.. إنّ مجموعة المعتقدات الخاطئة، إذا اُعتنقت فسوف تسبب مجموعةً من السلوكيات التي تضر بالمجتمع، ولهذا فليس من حق الفرد اعتناق ما يشاء من الافكار ..]
العنصرية الآن في العالم كله فكرة مبغوضة، وكذلك النازية في العالم الغربي الذين يعتقدون بتفوق العنصر (الآري) حسب تسميتهم، ولو بحثت في كل مجتمع من المجتمعات تجد أن هناك مجموعةً من المعتقدات المحظورة، فإذا اعتقد بها فرد تسبّب له الالتزامات القانونية، كالحد من نشاطه او ما اشبه، وقد تكون عقوبة قانونية كالسجن أو الغرامة، أو غيرها من الاجراءات القانونية التي تتخذها كل دول العالم، ومن هنا فإن الحرية في نهاية المطاف حرية مقيدة بأطر وحدود، والانسان مقيد بالاعتقاد في ضمن هذا الاطار، ولا يمكن تجاوزه نهائياً.
وإذن؛ فان الغرب لا يطلق العنان لأي جماعة تحمل افكار غير سلمية بممارسة نشاطها تحت شعار “الحرية الجماعية” الموجودة في النظام الليبرالي، فهم يمنحون الحرية لمن يعمل بشكل جماعي منظم، او مؤسسي بما يفيد المجتمع ويعود عليه بالنفع لا الضرر.
-
ماذا قالت النصوص الدينية عن حرية العقيدة؟
صحيح أن الدين لا يُكره الناس على اتباعه، لكنه يقدم نفسه كفكر ناجح وفريد، حيث أنه من رب الجلالة، وهو جل وعلا خلق الناس ليرحمهم، لا ليعذبهم، كما ورد في حديث قدسي، اما مسألة الاكراه في الدين فهي غير واردة نهائيا، يقول الله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، يقول سماحة المرجع المدرسي في تفسيره من هدى القرآن، في تفسير هذه الآية:” ولأن الانسان حين يستعيد حريته وانسانيته، فإنه يستطيع ان يستثمر طاقاته في سبيل الأقوم. و أية قوة هي أقوى من الانسان حين يكفر بالطاغوت، ويتمرد على كل سلطة تستعبده وتستغله، ثم يؤمن بالله، ويعمر قلبه بالثقة والأمل والتواضع للحق والتسليم له.
إن القوة الحقيقية في هذا الكون هي قوة الحرية ( الكفر بالطاغوت)، وقوة الحق (الايمان بالله). والله يؤيد بنصره من يشاء، وهو سميع عليم لما يقولون من كلمة كفر او ايمان، وعليم بما يضمرون من نية صالحة أو خبيثة”.
ويضيف سماحته: ” إن في الحياة سلطة حقيقية واحدة- متمثلة في سلطان الله- وقَدَره وقضائه،و بالتالي سننه الحتمية، وانظمته التي لا تتحوّل ولا تتبدّل، ومَن خضع لهذه السطلة، واتصل بها، واستمد منها القوةَ و الشرعية، استطاع أن يسخّرَ الحياةَ، ويصبح خليفة عليها من قبل تلك السلطة، ومَن كفر بها وتمرد عليها، وفتّش عن سلطات وهمية، واستسلم لها، ظل عبداً وتاه في ظلمات لا يُبصر”.
[ .. إن القوة الحقيقية في هذا الكون هي قوة الحرية ( الكفر بالطاغوت)، وقوة الحق (الايمان بالله) ..]
ويخاطب الله نبيه، صلى الله عليه وآله، وهو خطاب موجه الى المسلمين جميعاً، والى كل داعية لهذا الدين، يقول الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}، وفي هذه الآية الكريمة، يضع سماحة المرجع المدرسي النقاط على الحروف، في قضية الايمان، وحرية الاختبار والاختيار، يقول سماحته في تفسير هذه الآية: ” لقد خلق الله الحياة ليختبر فيها الناس، وجعل مادة الاختبار الايمان، وقد منحَ ربنا للبشرية حرية القرار فيما يخص الايمان، وكان ربنا القدير أن يهب الانسان نعمة الايمان بمثل ما وهب له نعمة العين، وأضاء له النهار، ولكنه لم يفعل”.
وكثيرة هي الآيات الحكيمة التي تحمّل الانسان مسؤولية الافكار التي يحملها، فالنبي أو الامام، إنما هو مبلغ لرسالة الله فقط، يقول الله: {لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}، يقول المرجع المدرسي في تفسير هذه الآية: “الانسان نفسه هو المسؤول المباشر عن قبوله أو رفضه الحق، وليس مبلّغ رسالة الحق، والواقع أن علم الانسان بمسؤوليته أمام تصرفاته سوف يساعده كثيراً على اتخاذ الموقف السليم، أما لو زعم أن بإمكانه أن يبرر موقفه، ويلقي بمسؤوليته على هذا وذاك، فإنه سيكون سبباً لعدم الاهتمام بالحق.
والنبي أو الرسول لا يُجبرُ أحداً على اتباعه، وإنما يوضح له البينة، ثم يترك قرار الاختيار بيد الانسان نفسه، يقول الله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} فعقل الانسان يكفيه حجة، ويأتي النبي، صلى الله عليه وآله، ومَن يتبع نهجه ليقوم بدور المذكِّر. وليس مكلفا عنهم ولا مكرها لهم، ولا يتحمل مسؤولية أفكارهم، وإنما هم المسؤلون، فما على الرسول إلا البلاغ المبين، حتى معرفة الله لا تتم إلا بعقل الانسان الذي يستثيره النبي بتذكرته.
وقد يستدل البعض بهذه الآية لاعتناق ما يشاء، من افكار باطلة، وعقائد منحرفة، يقول الله تعالى: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}، إن هذا لوجود الحرية في الدينا لغرض الفتنة والامتحان، وهنا ليس أمراً بالجواز بل بيانا لحرية الانسان في الانتخاب.
يقول سماحة المرجع المدرسي:” فالحكم بالجواز يختلف عن بيان الحرية، والله تعالى يريد الانسان أن يختار الحق وبمحض ارادته، ومن هنا فقوله تعالى ليس أمراً بالجواز بل بيانا لحرية الانسان في الانتخاب”.
إن الدين الاسلامي يقول بأصالة حرية الانسان في كل شيء، ومنها حريته في الافكار التي يعتنقها، لكنه-الدين- يضع للناس المنهاج الصحيح، والفكر النيّر الذي يكون فيه سعادته في الدارين، وما على الناس إلا انتخاب الاصلح والأحسن وفق المعايير العقلية والفطرية السليمة.
———————————-
- مقتبس من محاضرة للسيد محسن المدرّسي