أذكر فيما مضى من أيامي منذ ثلاثة عقود وأنا أتبع برنامجاً استفدته من سادتي وأئمتي، عليهم السلام في هذه الحياة، ويتلخَّص بأن هناك مواسماً للخير ومنابعاً للنور، ومراتعاً للبركة، كأشهر النور الثلاثة وكنتُ أُخصص القراءة أيضاً فيها، ففي شهر رجب كنتُ أقرأ واكتب عن أمير المؤمنين عليه السلام، وفي شهر شعبان عن رسول الله صلى الله عليه وآله، وفي شهر رمضان عن القرآن قراءة وتدبراً وكتابة، وكنتُ أشعر – وما زلت طبعاً – أنها تجربة ناجحة ومفيدة جداً، حتى عندما كنتُ في ظلمات السجن كان برنامجي هذا من أعظم وأجمل وأكمل البرامج التي استفدت منها كثيراً في العبادة والدعاء.
-
شعبان التحدي هذا العام
شعبان؛ شَعَبَ وظَهَرَ بين رجب وشهر رمضان، فاغتنموه يا مؤمنين، لكعلكم تفوزوا عند رب العالمين، وتنجحوا في هذه الحياة التي تكالبت علينا وقامت على ساق من كل حَدَبٍ وصَوْبٍ، وهذا من أشهر النور يُطلُّ علينا ونحن محاصرون في بيوتنا مسجونين في أهلنا، وإذا ما استمرَّ الأمر على هذه الوتيرة المتصاعدة ليس حكام الطليان (إيطاليا) فقط يرفعون راية الاستسلام أمام كورونا، بل العالم أجمع سيرفعها ويُعلنون ما أعلن الوزير الإيطالي: “انتهى عمل الأرض وبقي عمل السماء”، لأن هذا الشهر سيكون شهر التحدي على كل المستويات.
نحن في بداية وغُرَّة هذا الشهر العظيم، والفرصة أمامنا جميعاً للعودة الى الله تعالى بكل اخلاص
وعمل السماء لا ينتهي، بل يبدأ ولكن لا يبدأ إلا منَّا قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، فالعالم كان يعيش بنعمٍ لا تُعدُّ ولا تُحصى، ولكن قادته طغوا وبغوا وقالوا ما قاله فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}، فالتغيير يبدأ منَّا نحن البشر بالذنوب، ثم الكبائر، ونستمر حتى نفسد في الأرض فنقف حائرين أمام فايروس صنعناه بأيدينا، فيخرج بلحظة وغفلة عن سيطرتنا ويبدأ بحصاد الأرواح دون استثناء، ولا مخلِّص إلا الله تعالى، فنعترفَ بالقصور والذنب ونتوب إلى الله من التقصير ونجأر إليه بالضراعة والدعاء، قال سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا}، والعالم كله – على ما يبدو – أخذهم البأس، ويجب عليهم الضراعة، والتضرع إلى الله، وهذا ما بينه الإمام موسى الكاظم، عليه السلام بقوله : “مَا مِنْ بَلَاءٍ يَنْزِلُ عَلى عَبْدٍ مُؤْمِنٍ فَيُلْهِمُهُ اللهُ عَزّ َوَجَلَّ الدُّعَاءَ، إِلاَّ كَانَ كَشْفُ ذلِكَ الْبَلَاءِ وَشِيكاً وَمَا مِنْ بَلَاءٍ يَنْزِلُ عَلى عَبْدٍ مُؤْمِنٍ فَيُمْسِكُ عَنِ الدُّعَاءِ، إِلاَّ كَانَ ذلِكَ الْبَلَاءُ طَوِيلاً، فَإِذَا نَزَلَ الْبَلَاءُ فَعَلَيْكُمْ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ”. (الکافي: ج 4 ص 308).
لماذا لا نتأسى برسول الله وقد جعله الله لنا قدوة وأسوة بقوله تعالى : {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}
-
شهر الشفاعة والشَّفيع
ولا سيما أن من أسماء شهر شعبان شهر الشفاعة، فقد قال رسول الله، صلى الله عليه وآله : “وسُمي شهر شعبان شهر الشفاعة لأن رسولكم يشفع لكل مَنْ يُصلي عليه فيه”، ونحن نقرأ في الدعاء المأثور كلّ يوم من شهر شعبان :”وهذا شهر نبيك سيّد رسلك شعبان الذي حففته منك بالرحمة والرضوان”، وصاحب الشفاعة التي لا تُرد هو رسولنا الكريم، فالشهر شهره، والأمة المنكوبة هي أمته، فما علينا إلا الالتجاء إليه والدعاء والتوسل إلى الله به لعله يشفع لنا فيرفع عنَّا هذا البلاء، فهو الذي يرفع الآصار والأغلال عن الإنسانية كلها.
ورسول الله، صلى الله عليه وآله هو الرحمة، وقد مسَّنا الضر، ونالنا العسر، ألا يجدر بنا أن نعود إلى ربنا ورسولنا الكريم في شهره شعبان هذا فنتأسى به ونقتدي بجنابه ونصنع ما كان يصنع في هذا الشهر العظيم، لعل الله سبحانه إذا وجد منا حُسن نيَّة، وسلامة طوية، وتوبة نصوحة، يرفع عنا هذا الداء كما رفع العذاب عن قوم سيدنا يونس وقد لامس رؤوسهم قال تعالى :{فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}، فهذه قوانين وسُنن السماء التي لا يفقهها أهل الأرض.
ولكن يجب أن يؤمنوا بها، ونحن مؤمنون – لله الحمد – ولكن منبهرون بالحضارة، وها هي الحضارة الرقمية تتحطم وتنهار أمام فايروس صغير جداً كما يعترف الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفراي، ويقول: ” أزمة “كورونا” تأتي ضمن انهيار الحضارة اليهودية-المسيحية”، هي تترنَّح ولكن هل ستسقط كما سقطت الإمبراطورية السوفييتية بأيام وتذهب إلى مزابل التاريخ، أم أنها تُصارع وتُقاوم وتتساقط تباعاً حسب قوتها وإيمانها وعودتها إلى الله تعالى، لأن الكثير من هذه الشعوب البائسة اقتنعت بما قاله ذاك المسخ (دوكنز) في كتابه (وهم الإله) فأنكروا ربهم، ورفضوا عقلهم، وشوَّهوا فطرتهم، للأسف الشديد.
-
شعبان وشجرة طوبى والزقوم
ونحن في بداية وغُرَّة هذا الشهر العظيم، والفرصة أمامنا جميعاً إن فقهنا الواقع بكل مخاطره ومخاوفه وتعقيداته، ولنُكن على بيِّنة من أمرنا وقراءة لتراثنا الذي يقول فيه رسول الله، صلى الله عليه وآله: “والذي بعثني بالحق نبياً، إن إبليس إذا كان أول يوم من شعبان بثَّ جنوده في أقطار الأرض وآفاقها يقول لهم :اجتهدوا في اجتذاب بعض عباد الله إليكم في هذا اليوم، وإن الله عز وجل يبثُّ ملائكته في أقطار الأرض وآفاقها يقول لهم: سددوا عبادي وأرشدوهم وكلهم يسعد بكم إلا مَنْ أبى وتمرَّد وطغا فإنه يصير في حزب إبليس وجنوده.. وإن الله عز وجل إذا كان أول يوم من شعبان أمر بأبواب الجنة فتُفتح، ويأمر شجرة طوبى فتطلع أغصانها على هذه الدنيا، ثم أمر بأبواب النار فتُفتح ويأمر شجرة الزقوم فتطلع أغصانها على هذه الدنيا، ثم ينادي منادي ربنا عز وجل: “يا عباد الله هذه أغصان شجرة طوبى فتمسكوا بها ترفعكم إلى الجنة، وهذه أغصان شجرة الزقوم فإياكم وإياها لا تؤديكم إلى الجحيم”.
قال: فو الذي بعثني بالحق نبيا مَنْ تعاطى باباً من الخير في هذا اليوم فقد تعلَّق بغصنٍ من أغصان شجرة طوبى فهو مؤديه إلى الجنة، ومَنْ تعاطى باباً من الشَّر في هذا اليوم فقد تعلق بغصن من أغصان شجرة الزقوم فهو مؤديه إلى النار”.(بحار الأنوار: ج 8 ص 166).
هذه فرصة من فرص الخير وأنتم في هذا الحصار فاغتنموها في الصلاة والدعاء والضراعة والتأمل في خلق الله، والتدبر في كتاب الله وتلاوته بتفكر، واتعظوا بمواعظ الله، وابحثوا عن سيرة رسولنا لأكرم، صلى الله عليه وآله وكيف كانت سيرته العطرة، في أهله وعياله، ومع زوجاته وبناته، وصلاته ودعاءه وضراعته التي تدخل الله سبحانه ليُخفف عنه لكثرتها فقال له: {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى}، فكان يُصلي أكثر من ثلثي الليل، ويقف حتى تتورَّم قدماه الشريفتان، ويقوم بمسؤولية تسع نساء، وأمة، وقرآن، ورسالة، وكفار، ومشركين، ويهود، وكل عوالم الإنس والجن، وكانت هذه سيرته العطرة ومسيرته المباركة.
-
تأسوا برسولكم الأطيب
قال أمير المؤمنين، عليه السلام يأمرنا :”فَتَأَسَّ بِنَبِيِّكَ الأَطْيَبِ الأَطْهَرِ(صلى الله عليه وآله) فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّى، وَعَزَاءً لِمَنْ تَعَزَّى وَأَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللهِ الْمُتَأَسِّي بِنَبِيِّهِ، وَالْمُقْتَصُّ لأَثَرِهِ؛ قَضَمَ الدُّنْيَا قَضْماً، وَلَمْ يُعِرْهَا طَرْفاً، أَهْضَمُ أَهْلِ الدُّنْيَا كَشْحاً، وَأَخْمَصُهُمْ مِنَ الدُّنْيَا بَطْناً، عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، وَعَلِمَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ أَبْغَضَ شَيْئاً فَأَبْغَضَهُ، وَحَقَّرَ شَيْئاً فَحَقَّرَهُ، وَصَغَّرَ شَيْئاً فَصَغَّرَه”(نهج البلاغة: خ 160).
فلماذا لا نتأسى به وقد جعله الله لنا قدوة وأسوة بقوله تعالى : {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}، وكلنا نرجو ذلك والطريق واضح هو التأسي بأسوة الخير والصلاح والفلاح للبشر قاطبة، ونحن – بحمد الله وفضله – من أمته المرحومة، وعشاق عترته وأهل بيته الأطهار عليهم السلام، ومواليهم وقد ذقنا الأمرين في هذه الحياة من أعداء الله والنواصب وقد جاء أمر الله لينتصر لنا فلا نكون من الأعداء الذين ختم الله على قلوبهم وسمعهم وبصرهم وكانوا كالأنعام بل أضل سبيلاً.