تمتاز كل أمة بما تملكه من رصيد ثقافي ومعرفي وعلمي، يؤهلها الى التقدم والتطور في جميع مناحي الحياة، سواء السياسية او الاقتصادية او الاجتماعية، أو العلمية، والامة الاسلامية كغيرها من الامم السابقة، أو الموجودة تمتلك رصيد معرفي ضخم أهّلها سابقا في التصدر الحضاري على جميع الامم، الى ان تراجعت الى الوراء، وهناك اسباب داخلية وخارجية تُبحث في محلها.
ويمثل القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة ومَن يمثلها الركيزة الاساس في العلوم والمعارف الاسلامية، وبالخصوص كتاب نهج البلاغة وهو كلامٌ لامير المؤمنين، عليه السلام، تم تجمعه وتبوبيه كما هو عليه الآن، ويتضمن الخطب البلغية، والمواعظ الكنيزة، والحِكم النفسية للامام علي، عليه السلام،
فأين نحن من نهج البلاغة؟
ومتى آخر مرة تصفحنا أوراقه؟
-
نهج البلاغة الكنز المتروك
يكاد لا يخلو كتاب نهج البلاغة من بيوت المسلمين عامة، وبالخصوص أتباع أهل البيت، عليهم السلام، لكن هذا الكتاب قد علاه الغبار، وربما يأتي يوم القيامة ممن يكشون الى الله تعالى، بسبب تركه وعدم الاستفادة منه، فما هو العذر لهجران هذا الكنز الدفين، والعلم النافع؟
يعزو البعض ترك قراءة كتاب نهج البلاغة، كونه يحتوي على مفردات وألفاظ بلاغية في غاية الصعوبة، وغير سهلة الفهم والادراك، ولكنّ هذا العذر اليوم مقطوع ومردود، لأن شروحات هذا الكتاب بالمئات، وخصوصا أن العتبة العلوية المقدسة، قامت مؤخرا بإنشاء قسما خاصا لدراسات علوم نهج البلاغة، اذن فما هو العذر الحقيقي؟
إن أهم مسؤولية نتحملها تجاه نهج البلاغة، هي قراءته والتدبر في الكلمات المضيئة، لاستخلاص الحلول الناجعة لمشاكل المجتمع على مستوى الفرد والامة
يبدو أن هروب الكثير من نهج البلاغة، يعود الى حالة نفسية تكمن في عدم تقبل الزجر والردع لهذه النفس الأمارة بالسوء، كون كلام الامام علي، عليه السلام، موجه الى الذات الانسانية، وقد استخدَم الامام، التقريع المباشر والقاسي لاهواء النفس وتقلباتها أمام الحق والنور، وقد يقول قائل:
أن ذلك الكلام كان موجه لاولئك الذين يعيشون في حقبة الامام، عليه السلام، فما شأننا والامام كان يؤنّب ابن حنيف الذي هرول الى مأدبة طعام، قد اعدها له أحد وجهاء البصرة آنذاك؟
ويقول آخر : وانا ما شأني في كلام الامام، لصاحبه همّام، الذي يصف فيه المتقين، حتى أن همّام صُعق ومات في نهاية حديث أمير المؤمنين؟!
إنّ هروب الفرد من تحمل المسؤولية – تجاه نفسه وتجاه مجتمعه- يبدو أنه السبب الاساس في إعراض الكثير عن هذا الكتاب النفيس، وكيف لا يكون ذلك والامام علي، عليه السلام، يقول في احدى صفحات نهج البلاغة :” وإنكم مسؤولون عن بقاع الارض وبهائمها”، فبالأولوية تحمل الفرد لمسؤوليته قبل الآخرين، ومن هنا كان الهروب أجدى وانفع كما يزعم مَن يفعل ذلك.
-
نهج البلاغة عطاءٌ بلا قيود
إذا ما راجعنا الكتب الموجودة فإنها كُتبت لتعالج اشكالية معينة مرتبطة بزمن معين وبظرف محدد، فإذا عدنا قليلا الى خمسينيات القرن الماضي وتصفحنا الكتبَ التي دُوّنت في تلك الفترة، نراها تعالج مشاكل ذلك الجيل، وهكذا اذا تدرجنا الى صعودا الى بداية القرن الواحد والعشرين، فإن الكتب التي عالجت مشاكل شباب الألفين، لم تعد صالحةً لشباب ألفين وعشرين.
ولكنّ كتاب نهج البلاغة والذي تضمن الدرر الكنيزة لأمير المؤمنين، عليه السلام، فإن ذلك الكلام كما كان موجها لاصحابه في حينها، ومعالجاً لمشاكل عاشها ذلك الجيل، فإنه أيضا موجه إلينا ونحن نعيش العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، فإذا ما جئنا الى صفات المتقين، والتي يضعها الامام علي، معيارا ومقياسا لنميّز به المتقي عن المنافق، فإن تلك الصفات ثابتة في كل زمان ومكان، فمثلا اذا اردنا معرفة هذا الشخص إذا ما كان متيقاً أم لا، نضعه أمام ميزان هذا الصفات ونرى هل يوجد شيء فيه متحقق منها، يقول عليه السلام : “مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ ومَلْبَسُهُمُ الِاقْتِصَادُ ومَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ – غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللَّه عَلَيْهِمْ”، وليس صعبا أن تضع فردا وتحاكمه من خلال هذه الصفات، فتستطيع أن تختبره من خلاله كلامه، فإذا صوابا، ولم يتفوه لغواً فهو كما قال عنه الإمام، وهكذا بقية الاخلاق والقيم بأضدادها.
وكما أن كتاب نهج البلاغة كتاب علمي وفكري، فهو أيضا تعليمي، فذات مرة كنا بحضرة أحد اساتذة اللغة العربية في ندوة ثقافية، وتطرق خلالها الى عاهات هذا الجيل، وما يعانيه من ضعف حاد في استخدام اللغة العربية على وجهها الصحيح نطقاً وكتابةً، وبعد الندوة سُئل كيف يمكن للانسان أن يقوّم لسانه لينطق النطق الصحيح لكلمات اللغة، فقال: “عليكم بقراءة القرآن الكريم، ومطالعة كتاب نهج البلاغة باستمرار”.
-
واجبنا تجاه نهج البلاغة
إنما نعانيه من مشاكل فردية واجتماعية، يحتّم علينا ويدعونا الى الرجوع الى كلمات النبي، صلى الله عليه وآله، وكلمات الائمة الطاهرين، وخصوصا كتاب نهج البلاغة، لما له من أهمية كبيرة وملحة، ولم يعد هذا الكتاب حكرا على احد، او صعب الحصول، حتى أن بإمكان الانسان المؤمن الاستفادة من وسائل التكنولوجيا الحديثة، فكتاب نهج البلاغة اصبح على شكل تطبيق على موقع شبكة الانترنيت، وبإمكان الجميع تنزيله والاستفادة منه.
إن أهم مسؤولية نتحملها تجاه نهج البلاغة، هي قراءته والتدبر في الكلمات المضيئة، لاستخلاص الحلول الناجعة لمشاكل المجتمع على مستوى الفرد والامة.
والجامعات والمدارس في عالمنا الاسلامي مدعوة لاضافة هذا الكتاب ضمن المناهج المعارفية التي تُدرّس، فلماذا نرى مساحةً اكبر للكتب الفلسفية والصوفية في المناهج الدراسية، التي لم تأتي بحلٍ لمشاكل الامة، وإنما اضافت عقداً جديدة للناس، ومن هنا يكون لزاما تضمن هذا الكتاب العظيم كمادة تدرس للطلاب، فهو :” دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق”، كما قال احد الائمة المعصومين عليهم السلام.