عندما نتحدث عن امير المؤمنين علي بن ابي طالب، عليه السلام، فإننا نتحدث عنه كقائد في الحروب والغزوات، وكمحنّك سياسي، وكمنظم اداري واجتماعي واقتصادي، وكحاكم عادل يفرض سلطة العدل على الجميع، الفقير والغني، والقوي والضعيف، والظالم والمظلوم.
وعندما ننظر الى أمير المؤمنين، عليه السلام، ينبغي أن ننظر له كحاكم، شرّع للدولة الاسلامية القوانين المتوافقة مع شريعة السماء، ومن يتأمل في عهده الى مالك الاشتر، يتيقن أنه رجل سما بالزمن، ولم يسم في زمن، أولم يكن هذا العهد كلام مَن عاش في القرون الوسطى، التي تسميها الشرق والغرب بالظلمة والتوحش، ألم يكن هذا العهد الذي وضع لأهل زمانه يعتبر لأرقى ذهنية مقنِّنة يفخر بها القرن الحادي والعشرون إن لم نقل يقصروا عنها؟
ألا ينبغي لحكّام الدول الاسلامية اليوم أن يقتدوا بهذا العظيم سُنةً وشيعة؟
الشيعة الذين يعتبرونه الحاكم الاول والاول بعد رسول الله، صلى الله عليه وآله، والسنة يعتبرونه رابع الخلفاء.
إنّ ما وضعه أمير المؤمينن من اُسس سياسية واقتصادية واجتماعية، لو قام به على أي حاكم من حكام العصر لكان من أعدل الحكام، ولعلنا اذا ما اردنا أن نتحدث عن جنبة من جنبات ذلك لاحتجنا الى محاضرات وندوات، ولكننا نستعرض جانبا من سياسته المالية والاقتصادية، والتي لو طبقها حكام اليوم لما وُجد فقير على أرض الاسلام، بل على أرض المعمورة.
-
سياسته المالية
كان الامام، عليه السلام، يرى أن المال الذي تملكه الدولة الاسلامية هو مال الله تعالى للمسلمين والمواطنين، ويجب انفاقه على تطوير حياتهم وانقاذهم من غائلة البؤس والحاجة.
ألا ينبغي على الحكام اليوم أن يبذلوا كل الثروات المعدنية والزراعية وغيرها في تطوير البلاد الاسلامية؟
أليس الغرب أكثر تطورا منا؟ من أين له الخيرات؟ ومن أين له التطور والغرب فقير اقتصاديا؟!
إنّ الخير والتطور الذي تعيشه البلاد الغربية، إنما هو من خيرات الدول الاسلامية، بل وإن امريكا اليوم في مأزق اقتصادي لم تخرج من بعضه إلا بمساعدة من الدول العربية والاسلامية، ومن هنا نقول:
ألا يجدر أن تُصرف كل تلك الاموال التي -تُقدم للغرب كمساعدات- في رقي مجتمعاتنا الاسلامية وتطورها، كما كان يفعل أمير المؤمنين عليه السلام، بل أكثر من ذلك، فقد عمد الامام علي الى إسداء المعونة الى أهل الكتاب من اليهود والنصارى المقيمين في ربوع الدولة الاسلامية، وكان يرى أن لهم حقا مشروعا في الثروة، كحال أي مسلم.
إنّ سياسة أمير المؤمنين المالية احتوت على العدالة الاجتماعية، فقريش كغيرها من العرب، والمهاجرين كالانصار، والمضريون كاليمنيين، والاوس كالخزرج ..الخ، ولم يستمع الامام عليه السلام الى دعاة التمييز بين المسلمين في شيء :” فإما هذا الفيء فليس لاحد على احد فيه أثرة، فقد فرغ الله في قسمته فهو مال الله، وأنتم عباد الله المسلمون، وهذا كتاب الله به اقررنا، وله اسلمنا، وعهد نبينا بين اظهرنا، فمن لم يرض به فليتول كيف شاء1..
ويقول عليه السلام أيضا :” والله لو اعطيت الاقاليم السبعة بما تحت افلاكها على أن اعصي الله في نملة اسلبها جلب شعيرة ما فعلته”2.
إن سياسة أمير المؤمنين المالية احتوت على العدالة الاجتماعية، فقريش كغيرها من العرب، والمهاجرين كالانصار، والمضريون كاليمنيين
وقد جرّت له هذه السياسة الازمات، وخلقتْ له المصاعب، فقد فسد عليه جيشه، وتنكّرت له الوجوه والاعيان، وناهضته الرأسمالية القرشية التي استأثرت بأموال المسلمين في عهد الخلفاء السابقين، وعندما وجد ابن عباس الانحلال والتخاذل في جيش الامام علي، عليه السلام، قال للإمام :” فضّل الله العربَ على العجم، وفضّل قريشا على سائر العرب”، فرمقه أمير المؤمنين بطرفه ورد عليه قائلاً :” أتأمروني أن اطلب النصر بالجور، لا والله لا افعل ما طلعت عليه شمس، وما لاح في السماء نجم، والله لو كان مالهم لي لواسيت بينهم، وكيف وإنما هي أموالهم (إنما المال مال الله)3.
كيف كان يوزع الاموال؟
يقول الامام علي عليه السلام :” والله لو اعطيت الاقاليم السبعة بما تحت افلاكها على أن اعصي الله في نملة اسلبها جلب شعيرة ما فعلته
عمد أمير المؤمنين الى توزيع الاموال التي تجبى للخزينة المركزية حين وصولها، فكان يبادر الى انفاقها على مستحقيها، والجهات المختصة، كتعمير الاراضي، واصلاح الري الذي يعود على البلاد بالفائدة، وكانت هذه هي سيرته ومنهجه.
انظروا الى حكام الاسلام اليوم هل يفعلون ما يفعله أمير المؤمنين؟
أين هي الخدمات والتسهيلات لابناء المجتمعات الاسلامية؟
وأين هو الدعم الاقتصادي الذي يؤهل و يمكن الفرد من تمويل تجارته؟
أين هي المستشفيات التي ترعى الشعوب وتسهر على راحتهم ؟
وأين .. وأين ..؟
-
احتياطه في اموال الدولة
احتاط الامام علي، عليه السلام، أشد الاحتياط في أموال الدولة، وقد روى المؤرخون صورا مدهشة لذلك:
1ـ عندما أتاه اخوه عقيل طالباً منه أن يمنحه بعض المال، فأخبره الامام أن ما في بيت المال للمسلمين، وليس له أخذ منه أي شيء، سواء قليل او كثير، وعندما ألح عليه عقيل، أحمى له الامام حديدةً فأدناها منه، فقال عقيل :” اتريد ان تحرقني بالنار ؟
وكانت هذه رسالة لاخيه، ولغيره أن مصير مَن يلعب بأموال المسلمين النار!
2ـ ولم يعطِ الامامين الحسنين أكثر مما يأخذ غيرهما مع شدة حاجتهما لذلك
3ـ وذات مرة وفد عليه عبد الله بن جعفر ومعه زوجته عقيلة بني هاشم، طالبا منه أن يسعفه بأموال ويهبه الثراء العريض، فتنكر له الامام علي.
هكذا كانت سياسة امير المؤمنين مع أهله واقربائه، فلم يعيشوا في ترف من العيش، و في مقام رفيع من السلطة الحاكمة.
-
محاولة اقتصادية جادة
ومن أجل الحفاظ على السلم الاجتماعي والاقصادي للمجتمع، حاول أمير الامام علي، عليه السلام، أن يمنع احتكار الاطعمة والبضائع، والذي يلجأ اليه بعض التجار طمعا في ارتفاع الاسعار، كما يفعله اليوم البعض منهم، وكما هو الملاحظ في الازمات مرت وتمر بها بلادنا.
ولذا فإن الامام يوجه مالك الاشتر الى ذلك :” فمن قارف حكره بعد نهيك إياه فنكل به وعاقبه من غير اسراف”4
وهكذا نرى أمير المؤمنين ارسى مبدأين، يعتبران من احدث المبادئ الاقتصادية، وهما حرية التجارة من جهة، وحماية المتسهلك من جهة أخرى، وقد شدّد على ذلك بأمره على أن يكون البيع سمحا بموازين عدل واسعار لا تجحف بالفريقين، البائع والمشتري.
—————————————-
1- بحار الانوار ج32.
2- نهج البلاغة.
3- حلية الابرار في أحوال محمد وآله الاطهار.
4- شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد.