ولد علي، عليه السلام، في الكعبة، وهو المولود الوحيد الذي يولد في بيت العبادة لا بيت الولادة، حتى أن السيد المسيح، عليه السلام، عندما اقتربت ولادته قيل لأمه البتول، وكانت في المعبد: “اخرجي فهذا بيت عبادة”.
وهنا لا تأخذك تلك الأقاويل التي يُرددها أهل الجاهلية والتجهيل في القرن الواحد والعشرين، الذين يُشككون في كل آية في أهل البيت، ويُنكرون كل فضيلة لهم، كما أمرهم سيدهم وكبيرهم الذي علمهم الكذب والدجل؛ معاوية ابن هند، الذي دفع ذاك الزبيري ليروي أن ابن خالته هو الذي ولد في الكعبة، وليس علياً، ولكن إلى عهد الحاكم النيسابوري صاحب المستدرك (المستدرك على الصحيحين، من أهم مصادر السنّة)، كان التواتر بولادة الإمام علي، عليه السلام، في الكعبة دون غيره، وقد حاول النواصب دفع هذه الكرامة، لكن الله أثبتها في الركن والمستجار ففي كل عام ينشقُّ الجدار ليقول للعالم أجمع: من هنا دخلت السيدة فاطمة بنت أسد لتلد علي بن أبي طالب، عليه السلام، وتبقى ثلاثة أيام، وفي رواية، أربعة أيام بلياليها داخل الكعبة، فمن أين أكلت، وشربت؟ ومَنْ الذي ساعدها في ولادتها، وأعطاها ما تلفه فيه؟ وأين ذهب الدم وكل ما ينتج من الولادة والبقاء تلك الفترة في الكعبة؟! كل ذلك لم يتحدث بشأنه أحد.
-
ولادة تحقق هدف ابراهيم الخليل
فولادة الإمام علي، عليه السلام، ليست كولادة غيره، لأن الولادة في الكعبة المقدسة يعني أن هذا المولود مقدساً، ومشرفاً، و ولياً لله لأن البيت بيت الله؛ فالمولود فيه هو له في كل حياته، ومماته، حركاته وسكناته، ويقظته ونومه، وصلاته وصيامه، وجهاده وسلامه، حتى في نفسه وكلامه.
ولادة الإمام علي، عليه السلام، في الكعبة، وشهادته في المحراب يعني أن هذا المولود هو الذي يُطهِّر الكعبة من الأصنام، ويطهر المساجد من الخرافات والإسرائيليات
فالولادة العلوية تعني الكثير لبني البشر لو فقهوا معناها، ولكنها جاءت في الجاهلية، وبين قوم يفتخرون بجهلهم، لأنها غاصت فيهم حتى النخاع، وإلا فما معنى أن يعبدون الأصنام والأوثان في بيت وُضع للناس للتوحيد والعبادة، وبناه لهم خليل الرحمن إبراهيم، عليه السلام، ليعبدوا لا ليجحدوا، وأمرهم بالحج إليه صلة بذريته، لا حباً بأحجاره، قال تعالى: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}. (سورة ابراهيم، الآية37).
فالقلوب تهوى إلى الذرية الطيبة من إبراهيم، وشجرته المباركة، شجرة الأنبياء، عليه السلام، التي ضربها الله مثلاً لكلمته في كتابه الحكيم فقال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}، (سورة ابراهيم، الآية25).
فالكلمة الطيبة في إسحاق كانت السيد المسيح، عليه السلام،، وفي إسماعيل، أهل البيت، عليهم السلام، الذين قال الله عنهم: {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ}، (سورة هود، الآية73).
فالعرب من نسل إسماعيل تشرَّفوا بهذه السلالة الطيبة، من تلك الشجرة المباركة التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، جعلهم الله حججه، وخيرته من خلقه، وصفوته من عباده، فمَنْ يُوازيهم، أو يُساميهم في شيء من ذلك كله؟ لاسيما وأن سيد السادات، وأشرف المخلوقات، أول الخلق في عالم النور، وآخر الأنبياء والرسل في عالم الظهور؛ محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وآله وسلم، سيدهم ومنهم وفيهم، أصلاً وفصلاً ومحتداً، كانوا نوراً واحداً ولم يفترقوا إلا في إبراهيم الثاني، شيبة الحمد عبد المطلب، عليه السلام، إلى عبد الله، وعبد مناف أبو طالب، فلما قويت الأصول أنتجت الفروع، فكان الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، لانهما من الجنة أصلاً، ألم يروي الجميع عن أمهما فاطمة الزهراء، عليه السلام،: {أنها حوراء إنسية}؟
وبما أنها حوراء، ولم يكن لها كفؤ من بني البشر إلا ذاك الفتى الذي لا فتى إلاه، علي بن أبي طالب، عليه السلام، فهو مثلها بلا شك ولا ريب، خَلقاً وخُلقاً، روحاً وجسداً، وإلا تنتفي الكفاءة بينهما، لأن أهل الأرض لا يُكافؤون أهل السماء إلا إذا كان فيهم تلك النفحة السماوية.
ولهذا ربما نجد المئات من الأحاديث والروايات التي تتحدث عن النور الواحد، والأصل الواحد، بين محمد وعلي، صلوات الله عليهما وآلهما، هذا بمجموعه من المتواترات في الأمة الإسلامية، فقد روي عن الإمام الصادق، عليه السلام، فرع تلك الشجرة وهو أعلم الخلق بها: “إن الله خلقنا من نور عظمته، ثم صور خلقنا من طينة مخزونة مكنونة من تحت العرش، فأسكن ذلك النور فيه، فكنا نحن خلقا وبشرا نورانيين لم يجعل لأحد في مثل الذي خلقنا منه نصيباً، وخلق أرواح شيعتنا من طينتنا و أبدانهم من طينة مخزونة مكنونة أسفل من ذلك الطينة ولم يجعل الله لأحد في مثل الذي خلقهم منه نصيباً إلا للأنبياء، ولذلك صرنا نحن وهم: الناس، وصار سائر الناس همج”. (الكافي للكليني، ج1،ص389).
-
الإطاحة بالأوثان
هذا الذي نؤمن به ونعتقده بأمير المؤمنين وسيد الوصيين، عليه السلام، فولادته في بيت الله تعني أنه كله لله؛ حياته ومماته، وما بينها لله خالصاً مخلصاً بلا شائبة، ولذا تراه لم يتدنس بشرك الجاهلية، ولا آثامها ليكون مثالاً للعالمين، وحجة على الخلق أجمعين، وهو مبني على الكتاب الحكيم، والسُّنة النبوية المتواترة.
فولادة الإمام علي، عليه السلام، في الكعبة، وشهادته في المحراب في مسجد الكوفة المعظم، يعني أن هذا المولود هو الذي يُطهِّر الكعبة من الأصنام والأوثان، والمساجد من الخرافات والإسرائيليات، من أحاديث الجاهلية، فبهمّته وسيفه قام الإسلام أولاً، وبأبنائه الأطهار ترسَّخ ونمى، وبمحبيه وشيعته، استمر وبقي على مدى الأيام، رغم كل ما نالهم من محن الأشقياء والمجرمين، من السلاطين والجبابرة الطغاة، كما نرى اليوم بأم العين ما يصنعه بهم شذاذ الآفاق، و زمر التكفير، وقطعان الجاهلية أينما وجدوا من أرض الله.
فالإمام علي، عليه السلام، ولد في الكعبة ولكن بعد سنوات رجع إليها وطهرها من كل ما فيها وعليها من أصنام وأوثان ومظاهر الشرك والجاهلية، ولم يستطع أن يحمل رسول الله، صلى الله عليه وآله، بل حمله الرسول نفسه ليُلقي بهُبل وغيره من الأصنام، وأنزله جبرائيل، عليه السلام، فكم لهذا من معاني لو فقهت الأمة ذلك، ولم تتجاوزه إلى غيره من أعماله وبطولاته وجهاده وثباته وقتله الأبطال والصناديد في معارك الإسلام بمواجهة الجاهلية المشركة!
ولادة الإمام علي في الكعبة يحمل رسالة ربانية كُبرى لبني البشر، ملخصها يمكن أن نصوغه بما يلي:
هذا هو المولود المثال لكم، هذا هو القدوة والأسوة، هذا الشخص والشاخص، وهو المقياس والمعيار لكم في كل قيمة وفضيلة، هذا هو الإنسان الكامل في الإنسانية فاقتدوا به تهدوا، واتبعوه في حياتكم لن تضلوا ولا تشقوا وتفوزوا فوزاً عظيما.
نعم؛ ولادة الإمام علي هي ولادة العروبة، والشهامة، والبطولة، والإباء، ولادة الكرم، والعلم، والفصاحة، والبلاغة، والشجاعة، ولادة النجدة، والشمم، فخر العرب والعجم.
تركت هذه الأمة الميزان الذي أعطاها الله، واتبعت الأرجاس، وهجرت الأطهار ووصلت الأنجاس، فمتى تؤوب وتعود إلى شرفها العظيم ودينها القويم، لتعود إليها الحياة؟
بل هي ولادة الدِّين والإيمان، والتقوى، والأخلاق، والقيم، والفضائل، بل هي ولادة النور، والهدى، والقرآن الحكيم، وحجة رب العالمين، فسبحان مَنْ أبدع وسوَّى، وخلق فهدى به إليه، فلولا علي ما عرف الله ولا رسوله ولا بقي دينه ولا كتابه.
فولادة علي، عليه السلام، في الكعبة تعني ولادة الصلاة في الحياة، فهو المقصود بالتوجه، لأنه لب الصلاة ومعناها لأنه هو الذي يوصل الخلق بالخالق، لولاه لما وصل إليه وبه أحد، جلّ جلاله، وتقدست أسماؤه، ولا إله غيره، امتحننا بخلق من خلقه، حيث أكمله فينا وقال: هذا وليكم وميزانكم.
ولكن هذه الأمة المنكوسة تركت الميزان، واتبعت الأرجاس، هجرت الأطهار ووصلت الأنجاس، تركت الكامل ولحقت الناقص الجاهل، فمتى تؤوب وتعود إلى شرفها العظيم ودينها القويم، لتعود إليها الحياة لأنها تترنَّح للسقوط، والزوال إلا أن يُدركها الله ببقية الآل الأطهار من نسل علي وفرعه السامي، عجل الله فرجه وسهل مخرجه، وجعلنا من أنصاره وأشياعه وأتباعه.