قال رسول الله، صلى الله عليه وآله: “العِلمُ نورٌ وضياءٌ يَقذِفُهُ اللهُ في قُلوبِ أولِيائِهِ، ونَطَقَ بِهِ عَلَى لِسَانِهِم“. (قرّة العيون للفيض الكاشاني:438)
العلم ليس بكثرة التعلم، بل بذاك التوفيق الإلهي، والعطاء الرباني للإنسان الذي يريد الله به الخير فهو عطاء عظيم من الرب، يهبه لخاصة أوليائه ليكونوا هداة لبني البشر في مسيرتهم.
و من أولئك الأولياء الذين وهبهم الله كنوز العلم والفهم؛ محمد وآل بيته الأطهار، عليهم السلام، الذي جعلهم الله عيبة علمه، وأمر الأمة أن تتعلم منهم ولا تعلمهم، وهذا جاء على لسان رسوله الكريم الذي قال بحقهم: “ألا إن أبرار عترتي وأطائب أرومتي أحلم الناس صغاراً، وأعلم الناس كباراً، لا تعلموهم فإنهم أعلم منكم، لا يخرجونكم من باب هدى، ولا يدخلونكم في باب ضلال“. (بحار الأنوار: ج 49 ص 180).
فهم “عِدلُ القرآن الحكيم” الذين أمر رسول الله، صلى الله عليه وآله، بالتمسك بهما كي لا نضلَّ ونشقى، فقال: “ولا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم“.
وعن الإمام الصادق،عليه السلام، أنه قال: “يا أبا بصير! نحن شجرة العلم ونحن أهل بيت النبي، وفي دارنا مهبط جبرئيل، ونحن خزان علم الله، ونحن معادن وحي الله، من تبعنا نجا ومن تخلف عنا هلك حقا على الله -عز وجل-“. (أمالي الصدوق: ص 252).
والروايات في الباب كثيرة وغزيرة، ولكن الملاحظ فيها أن سيدتنا فاطمة الزهراء،عليها السلام،هي أساس لذاك البيت، و أصل لتلك الشجرة المباركة التي ضرب بها الله مثلاً لعباده بالنزاهة والطهارة فهي الكلمة الطيبة والشجرة الإبراهيمية المباركة، فقال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}. (إبراهيم: 25)
عن أبي جعفر، عليه السلام قال: سألته عن قول الله تعالى: {مثل كلمة طيبة..} الآية قال: الشجرة رسول الله ، صلى الله عليه وآله، ونسبه ثابت في بني هاشم، وفرع الشجرة علي بن أبي طالب عليه السلام، وغصن الشجرة فاطمةعليها السلام، وثمرتها الأئمة من ولد علي وفاطمة عليهما السلام، وشيعتهم ورقها”. (بحار الأنوار: ج 24 ص138).
فالصديقة الطاهرة، أصل أصيل، ولذا قال عنها حفيدها الإمام الحسن العسكري، عليه السلام: “نحن حجج الله على خلقه وجدتنا فاطمة حجة علينا”. (أطيب البيان في تفسير القرآن 13: 226).
هذه الحُجة على الحُجج الله على الخلق، وأصلهم الطيب، وأمهم الطاهرة، يجب أن تكون في قمَّة العلم، وفي غاية الفهم لآيات الله وأحكامه، ولذا كانت تعلّم النساء وتفقههم في الدين، وتجيب على أسئلتهم الشرعية وتصبر عليهن حتى يتعلمن منها، ويروي الإمام العسكري، عليها السلام، هذه القصة عن أمه الزهراء فيقول: “حضرت امرأة عند الصدّيقة فاطمة الزهراء عليها السلام فقالت: إنّ لي والدة ضعيفة، وقد لبس عليها في أمر صلاتها شيء، وقد بعثتني إليك أسألك، فأجابتها فاطمة عليها السلام عن ذلك، ثمّ ثنّت، فأجابت، ثمّ ثلّثت [فأجابت] إلى أن عشّرت، فأجابت، ثم خجلت من الكثرة، فقالت: لا أشقّ عليك يا بنت رسول الله صلى الله عليه وآله“.
قالت فاطمة عليها السلام: “هاتي وسلي عمّا بدا لك، أرأيتِ مَن اكترى يوماً يصعد إلى سطح بحمل ثقيل، وكراؤه مائة ألف دينار، أيثقل عليه؟”، فقالت: لا، فقالت: “اكتريت أنا لكلّ مسألة بأكثر من ملء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤاً، فأحرى أنْ لا يثقُل عليّ. سمعت أبي رسول الله، صلى الله عليه وآله، يقول: إنّ علماء شيعتنا يُحشرون، فيُخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم وجِدِّهم في إرشاد عباد الله، حتى يُخلع على الواحد منهم ألف ألف خِلعة من نور. ثم ينادي منادي ربّنا عزّ وجلّ: أيّها الكافلون لأيتام آل محمد، الناعشون لهم عند انقطاعهم عن آبائهم الذين هم أئمّتهم، هؤلاء تلامذتكم والأيتام الذين كفلتموهم ونعشتموهم فاخلعوا عليهم -كما خلعتموهم- خلع العلوم في الدنيا. فيخلعون على كل واحد من أولئك الأيتام على قدر ما أخذوا عنهم من العلوم، حتى إنّ فيهم (الأيتام) لمن يخلع عليه مائة ألف خلعة، وكذلك يخلع هؤلاء الأيتام على من تعلّم منهم”.
وقالت فاطمة عليها السلام: “يا أمَة الله إنّ سِلكاً من تلك الخلع لأفضل ممّا طلعت عليه الشمس ألف ألف مرة، وما فَضُل فإنّه مشوبٌ بالتنغيص والكدر“. (بحار الأنوار: ج 2 ص 3).
إنّ علم فاطمة ونورها من علم الله ونوره، ولذا راحت تعطي
وتفيضُ على المؤمنين من خواصها وشيعتها، كما كانت تعطي النساء العلوم والحِكم كلما أردن ذلك منها، وكما كان عطاء سيدة النساء فاطمة، عليها السلام المادي مميزاً، كان عطاؤها المعنوي أكثر تميزاً ورفعة
ولعلك تسأل –عزيزي القارئ- كيف تعلمت الزهراء، ومتى استطاعت أن تتعلم كل هذه العلوم، ولديها من المسؤوليات وتربية الأطفال، وهي مازالت في عمر الورود، ومسؤولياتها تزن الجبال الراسيات؟
نعم؛ ولكنها فاطمة الزهراءعليها السلام، إنها الحوراء الإنسية التي كانت تأخذ من أبيها مباشرة، ومن بعلها أمير المؤمنين، عليه السلام، أيضاً، وبين ذلك فكانت تُرسل ولداها المباركين الحسن والحسين لينقلا لها كل كلمة يقولها رسول الله، صلى الله عليه وآله، في مجلسه الشريف ومسجده المبارك، ففي بعض الأحيان كان يرجع أمير المؤمنين، ليُحدثها بالجديد فيراها تُعلمه، فيسألها من أين؟ فتقول: “من ولدي الحسن“.
إنّ علم فاطمة ونورها من علم الله ونوره، ولذا راحت تعطي وتفيضُ على المؤمنين من خواصها وشيعتها، كما كانت تعطي النساء العلوم والحِكم كلما أردن ذلك منها، وكما كان عطاء سيدة النساء فاطمة، عليها السلام المادي مميزاً، كان عطاؤها المعنوي أكثر تميزاً ورفعة، لأن الأمور المعنوية والروحية أعلى شأناً، وأرفع محلاً من الآخر المادية كما هو معلوم.
ومن عطائها المعنوي العظيم، ما روته لسلمان الفارسي (المحمدي)، ذاك الكنز العظيم الذي خلاصته:”أنّ فاطمة عليها السلام علّمتني كلاماً كانت تعلّمته من رسول الله ،صلى الله عليه وآله، وكانت تقوله غداة وعشيّة، وقالت: “إنّ سرّك ألا يمسّك أذى الحمّى ما عشت في دار الدّنيا فواظب عليه، وهُوَ: بِسْمِ اللهِ النُّورِ، بِسْمِ اللهِ نُورِ النُّورِ، بِسْمِ اللهِ نُورٌ عَلى نُور، بِسْمِ اللهِ الَّذي هُوَ مُدَبِّرُ الأُمُورِ، بِسْمِ اللهِ الَّذي خَلَقَ النُّورَ مِنْ النُّورِ، الْحَمْدُ للهِ الَّذي خَلَقَ النُّورَ مِنَ النُّورِ، وَاَنْزَلَ النُّورَ عَلى الطُّورِ، فِي كِتاب مَسْطُور، رِقٍّ مَنْشُور، بِقَدَر مَقْدُور، عَلى نَبِيٍّ مَحْبُور، الْحَمْدُ للهِ الَّذي هُوَ بِالْعِزِّ مَذْكُورٌ، وَبِالْفَخْرِ مَشْهُورٌ، وَعَلَى السَّرّاءِ وَالضَّرّاءِ مَشْكُورٌ، وَصَلَىّ اللهُ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ الطّاهِرينَ”.
قال سلمان: “فتعلمتهنّ وعلّمتهنّ أكثر من ألف نفس من أهل المدينة ومكّة ممّن بهم الحمّى، فبرئوا من مَرضهم بإذن الله تعالى”.
ألا يجدر بنسائنا وبناتنا أن يتخذن هذه السيرة العطرة لسيدة النساء، عليها السلام، ويقتدين بها في حياتهنّ، فيتعلمن علوم الدين والقرآن والأحكام الشرعية ليُفدن النساء وينقذوهن من الفتن التي تُحيط بهن في هذا الزمن العصيب، لما يرونه من مفاتن ومفاسد تستهدفهن في أنفسهم وبيوتهن وحتى في مخادعهن من قبل الاستكبار العالمي؟
فاطمة الزهراء، عليها السلام عالمة غير معلمة، وهي حجة من حجج الله على الرجال والنساء ولذا جدير بنا وبنسائنا وبناتنا العزيزات الكريمات أن يعدن قراءة حياة هذه النسمة الطاهرة ويتخذن منها منار هدى، وقدوة في العلم والتعلم والتعليم وهي ضامنة لهن الفلاح والنجاح في حياتهن كلها.