قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}.
لماذا اصبح المجتمع المدني الذي صاغته الرسالة، واشرف على تربيته وتعليمه رسول الله اصبح مثلا يحتذى، حتى ان القرآن جاء بهذا المثال السامي في سورة الفتح.
فما هي الصفة التي اتصف بهذا المجتمع؟
وهل يمكن ان يتكرر ذلك المجتمع في عصرنا؟
واذا تكرر ذلك المجتمع ألا يكون منقذا ومخلصا لشعوب العالم من الحيرة والضلالة؟
الصفة الاولى والاساسية لذلك المجتمع : تفضيله النفع العام، اعظم من منافعهم الخاصة، وذوبانهم في كيان واحد، فالقرآن تارة يقول: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ }، ومعنى ذلك ان كلام الرسول وخلقه، كان يسبق كلامهم، فكانت همتهم ان يكونوا محمدي السلوك والاخلاق، ويسعون الى تجسيد الاية الكريمة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}، وقوله تعالى : {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، اما مع بعضهم البعض فكانوا تجسيدا لقوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ}، فكان الواحد منهم يؤثر الآخرعلى نفسه، حتى لو كانت حاجته عظمية الى ذلك الشيء، وكانت همهتم ليس اصلاح انفسهم كفراد، بل اصلاح بعضهم البعض.
فالمؤمن نظام اصلاح في المجتمع، انطلاقا من قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}، وقول الله عز وجل : {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، ونحن علينا الاستفادة من تجربة اصحاب رسول الله، ومن ذلك التجمع الايماني، في اصلاحهم لبعضهم البعض، وهذا ما تؤكده السيدة الزهراء -سلام الله عليها- لابنها الحسن – حينما كانت تقوم الليل وتدعو لجيرانها- وهو يسألها: لماذا لا تدعين لنا يا أماه، فقالت: يا بني الجار ثم الدار.
هذه الصفة انعكست على واقع المجتمع الاسلامي، بأنهم اشداء على الكفار، فهم لمن يريد ان يستلب ثقافتهم، ويغتصب حقوقهم، ويحتل بلادهم، ويأمرهم وينهاهم، يقفون الموقف الحازم، لان همتهم في وطنهم وتجمعهم الايماني، أما مع بعضهم البعض، فهم رحماء بينهم، والرحمة هي التي نجد منطلقها في الاسر، فالاسرة الطيبة مدرسة الرحمة، فالأب رحيم على زوجته واولاده، كذلك الام تفكر في زوجها واولادها، والاولاد يفكرون ايضا في الوالدين، وهذه الصفة الاساسية، وهي الرحمة المتبادلة، بدورها تنكعس في المجتمع الكبير.
والمجتمع الكبير تماما كالاسرة، ولهذا ورد في احاديث كثيرة أن يجعل الانسان مَن هو اكبر منه في مقام الاب، ومن هو اصغر منه في مقام الاخ، والاصغر في مقام الابن، لأن هذه الرحمة المتبادلة ضمانة للمجتمع من التمزق، ذلك لان التمزق ما يحدث كثيرا، اما بأسباب داخلية او خارجية، وعادة هذا التمزق يأتي من الخارج.
هذه الصفة التي تسبب الاختلافات عند الامم، ليس فقط في العراق، فليبيا على شفا حرب أهلية، وسوريا تمزقت، و لبنان، والسودان، والجزائر، كل هذه البلاد هناك من يسعى من خارجها الى بث الافكار الشيطانية والسلبية بداخلها.
والتفرقة التي يقوم بها اعداء ما وراء البحار اليوم، هي نفس التفرقة التي كانوا يقومون بها من قبل، إلا أن الوسائل اختلفت، فكان فيما مضى لورانس البريطاني الذي كان يسمى لورانس العرب، كان لديه مئات العملاء المنتشرين في مخلتف البلاد، فكانوا يزرعون التفرقة بين ابناء المتجمع الواحد عبر مؤامراتهم الخبيثة.
وفي فترة من الفترات كان هناك خلاف بين إمارة الشارقة، وإمارة دبي، وكان الخلاف على بئر، ووصل الخلاف الى ذروته، فاجتمع الطرفان، فقالوا:
لماذا لا نرجع الى البريطانيين لان الخرائط بايديهم؟
فذهبوا الى البريطانيين، فتبين أن البريطانيين اعطوا لكلا الامارتين نسختين مختلفين لموقع البئر، فهذا نموذج من زرع الخلافات بين الناس في تلك الحقبة.
لكن عندما يكون المؤمنون اشداء على الكفار، فإن هذا الخلاف لا يؤثر، والخلافات الداخلية تتلاشى عندما يفكر فيها الجميع، فما دام الهدف الوصول الى القمة فلماذا نجعل من الخلافات سبيلا الى التفرقة والتمزق، فالتفكير في المصالح الذاتية واقصاء الغير هو البذرة الاولى للخلاف.
لقد تمزق العراق عبر أمرين؛ الجهل، ومكر الاعداء، ولهذا عندما ترى شاباً يُقتل ويُحرق، على ما يدل هذا الفعل؟
وهل هذا هو تاريخ الشعب العراقي ؟
وهل كان تعامل الشعب مع بعضه البعض بهذه الحالة المزرية؟
فكيف حصل ذلك؟
فذلك ليس ديننا، ولا قيمنا الاصيلة، ولا مصلحتنا تأمر.!
فمن أين مصدر ذلك؟
انّ مصدره العدو الذي يعمل تحت القاعدة المشهورة “فرّق تسد”، فكيف يمكن معالجة هذا؟
يكمن ذلك في العلاج الذي اتبعه الرسول الاكرم، صلى الله عليه وآله، مع ذلك المجتمع المتمزق، المختلِف مع بعضه، يقتل بعضهم بعضا، وقصة الجرحى الذين سقطوا في احدى معارك النبي، من اجلى صورة الايثار عند ذلك المجتمع، فعشرة جرحى ماتوا عطشا، فكان كل واحد منهم يقدّم أخيه الجريح على نفسه، حتى ماتوا جميعا، هذه الرحمة لابد ان نتعلم منها، فالشاب الذي – قُتل بتلك الصورة البشعة- خلفه اسرة كاملة، فأمه وأهله ينتظرون عودته.
المجتمع المدني ذوّب نفسه في ولاية رسول الله، صلى الله عليه وآله، وأصبح ذلك التجمع كالبوتقة الواحدة، يجمعها قيادة النبي، ونحن يجب ان نذوب في قياداتنا الرسالية.
-
القيادة المرجعية .. صفحات من التاريخ المشرق
وكم هي فوائد القيادة الدينية التي يتبعها الناس ابتغاء رضوان الله تعالى، لان بهذا الاتباع تكون هذه القيادة بركة للامة، ومع الاسف فإن التاريخ الذي يُدرس في المدارس هو تاريخ نابليون، وتاريخ بريطانيا، وامريكا، متجاهلين تاريخنا وتاريخ علماؤنا، وبشكل او بآخر لا يريدون الاعتراف ان لدينا تاريخ مليء بالانجازات الكبيرة.
في كثير من الاحيان تعرض العراق الى حملات ابادة من قبل اعراب نجد، فهاجموا كربلاء والنجف، وبعض المناطق الاخرى، فكلما جاعوا هجموا على منطقة من مناطق البلد، ومن ضمن جرائمهم اختطاف عشرة الآف من النساء والاطفال، واخفائهم ولم يُعرف مصيرهم حتى اليوم، في مثل تلك الظروف التي لم تكن هناك قوة تمنعهم وتردعهم، الا ان المرجعية قامت بدورها بمعونة المجتمع.
فالبريطانيون الذين كانوا يتحكمون بمصير العراق، لاقوا من الشعب التحدي والرفض، لان هذا الشعب يتمتع بالاباء والكرامة، وانتزع الشعب استقلاله من بريطانيا التي كانت تلك المملكة المتمادية.
العثمانيون بين فترة واخرى كانوا يرسلون حملة على العراق، وبالذات على كربلاء، فتاريخ كربلاء مكتوب بالدم، حينما كانوا يتصدون لتلك الحملات الاجرامية، ويدافعون عن انفسهم بكل وسيلة، والعلماء كان لهم دور، فقد كانوا يقومون باصدار الفتاوى، وبتنظيم المجتمع والقيام بمسؤوليات أخرى.
تاريخ علمائنا حافل بالدفاع عن البلدان الاسلامية، من ايران الى افغانستان الى لبنان، فالسيد شرف الدين – صاحب كتاب المراجعات- له تاريخ في مقاومة الفرنسيين في لبنان، و السيد محسن الامين ايضا له تاريخ في مقاومة الغزاة انفسهم في سوريا، وعندما اخذت سوريا استقلالها، ذهب جميع الرؤسا الى السيد الامين ليباركوا له هذا الانتصار، مع ان المجتمع السوري لم يكن من الموالين لاهل البيت، الا نهم ذهبوا الى السيد احتراما له.
-
الشعب العراقي واحداث اليوم
ومن الفخر ان شعبنا العراقي كان له دور كبير في الاحداث الجارية، خصوصا ابناء الناصرية الذين كان لهم دورا كبيرا، في اخماد الفتنة التي لو استمرت لراح ضيحتها المئات من القتلى، لكنهم قاموا بدورهم، واستمعوا الى نداء المرجعية، وكان ما حدث أن فُقأت عين الفتنة، ووأدت في مهدها.
وهذه الاحداث الاخيرة في العراق، ستكون كلمة المرجعية، المستواحاة من الاسلام، ومن ولاية أهل البيت عليهم السلام، ومن الامام الحسين عليه السلام، ستكون الكلمة العليا التي تخمد نار الفتنة، ومحاولة ترميم هذه اللحمة، وهذا الكيان المرصوص الذي حاول الآخرون عبر اموالهم وعملائهم، تمزيق هذا البلد.
العراق مهيأ لايجاد التجمعات الرسالية، التي تحول البلد الى بنيان مرصوص، الذي لا يستطيع أي جرثومة اختراقه، وذلك عبر الهئيات والمواكب الحسينية، هذه المواكب قوة كبيرة، ولكننا بحاجة الى تفعيلها، عبر التعاون فيما بيننا، والتواصل مع المرجعية لتشكل تجمع ايماني قوي.
على المؤمنين ـ في أي مكان ـ ان لا يعيشوا افرادا، بل تجمعات، إما تجمعات عشائرية، او تجمعات اسرية كبيرة، وإما تجمعات رسالية عبر المواكب، او عبر اي مؤسسة أخرى، فالشيطان والجهات الاجنبية غير قادرين على العيش فيما بين هذه التجمعات.
لو عشنا مجتمعات تحت في ظل المرجعية، فإن المشاكل الصغيرة والكبيرة سوف تُحل، والبلد يبقى بلدا آمنا مطمئنا، كما كان مجتمع رسول الله، صلى الله عليه وآله.