في عراق اليوم فتنة كبرى، اختلط فيها الخطوط، وتداخلت الحسابات على كل المستويات، وعادة الفتنة هي كما وصفها حكيم الشرق -كما يسمونه في الغرب– أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(ع) بقوله: (إِنَّ اَلْفِتَنَ إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ وَإِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ يُنْكَرْنَ مُقْبِلاَتٍ وَ يُعْرَفْنَ مُدْبِرَاتٍ).
تلك هي طبيعة الفتن في المجتمعات البشرية فهي تكون مشتبهة في أولها لتداخل الأوضاع والأحوال، وعدم تبيان خيط الحق من حبائل الباطل والضلال، وهذا ما يظهر للعيان جلياً في نهايتها، وعند ذلك ترى الندم على ما فات، والتفريط بكثير من الحقوق والدماء والموال على أصحابها.
والعراق الآن يعيش تلك الحالة من الفوضى المدمرة والهدامة، وليست (الخلاقة) كما سمتها وزيرة الخارجية الاميركية السابقة (رايس) مع بدء الغزو الاميركي للعراق، ولكن ما الحل؟ وكيف يجب أن نتصرَّف مع هذا الوضع؟ فهي كما وصفها ذاك المفتون في دينه يوم معركة الجمل؛ أبو موسى الأشعري: (إنّ هذه الفتنة باقرةٌ كداء البطن، تجري بها الشمال والجنوب، والصبا والدَّبور، فتسكن أحياناً فلا يُدرى من أين تؤتى، تذر الحليم كابن أمس).
كيف للعراق والعراقيين الغيارى الخروج من هذه الفتنة بأقل الخسائر وأعظم المنجزات؟
تناول هذه المسألة السيد المرجع المدرسي(حفظه الله) في كلمته الأسبوعية في مكتبه بمدينة كربلاء المقدسة، وبيَّن وجه المشكلة وأعطى أصولاً للحل إذا أخذ به العراقيون الأبطال.
قال سماحته: (أن إصلاح الواقع الفاسد سجيَّة كل إنسانٍ سوي، ولكن قد يخطئ البعض في سلوك الطريق الصحيح للإصلاح، مبيّناً وجود مذاهبٍ مختلفة في سبيل الإصلاح الشامل، بين مَنْ يرى ضرورة إصلاح الفرد، وبين مَنْ يرى ضرورة الإصلاح عبر السياسة، وبين مَنْ يتخذ الطريق الأوسط وهو الإصلاح الاجتماعي، الذي يُمهّد لصلاح الواقع الاقتصادي والسياسي للمجتمع، كما أن السياسات الفاسدة لا تتمكن من إفساد المجتمع الصالح).
فهنا نظريات ثلاث يبينها السيد المرجع في مسالة الإصلاح، وقد قدم سماحته رأي استنبطه من القرآن الحكيم، ومن سيرة الأنبياء والمرسلين جميعاً(ع) وهي تمثل نظرية الإسلام في مسالة الإصلاح العام.
يقول سماحته مبيناً وموضحاً فكرة الإصلاح الاجتماعي كان الهدف الأبرز للأنبياء (عليهم السلام) وتعاليم الإسلام كلها في هذا الاجتماع، ولذلك فهو الطريق الأتم بين سائر الطرق رغم صعوبته، الأمر الذي يلجئ البعض إلى تركه، منتقداً الذين يتركون هذا الحمل الثقيل، ويحاولون بدلاً عن ذلك، القفز على السلطة زاعمين قدرتهم على إصلاح الفساد بالأوامر والنواهي، عازياً السبب وراء ذلك النزعات الشخصية للوصول إلى الإمكانيات والامتيازات.
فطريق الإصلاح صعب المرتقى ولكنه عظيم الأثر في المجتمع الإنساني، لأنه يعيده إلى جادة الصواب والفطرة التي خُلق عليها الإنسان، أي يعيده إلى إنسانيته الضائعة، ويُعيد إليه إنسانيته المسلوبة من قبل الطغاة والظالمين.
ولذا كان هذا الواجب الكبير والحمل الثقيل على الجميع كما يبينه سماحة السيد المرجع المدرسي بقوله: (الإصلاح الاجتماعي يُعدُّ واجباً على أحاد أبناء المجتمع، وذلك عبر تفعيل قوة الأمة في تثقيف أبناء المجتمع بالثقافة الصحيحة وإصلاح ما فسد من أمورهم، ولولا ذلك لأبتلي المجتمع بأخطارٍ كبيرة، أبرزها تسلّط الظالمين والفاسدين على رقاب الناس والتصرف في مقدراتهم).
وربما يكون هذا الأمر هو جوهر فريضتا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي جعلت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس كما في الآية الكريمة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (آل عمران: 110)
-
طريق الخروج من هذه الفتنة
ولو سألنا السيد المرجع عن الحل الأمثل لهذه الفتنة، التي تعصف في العراق والمنطقة كلها، لجاءنا الجواب مختصراً ولكن يعطينا أصول و ركائز الحل من وجهة نظره المبنية على علم وتجارب طويلة في الفقه والواقع والسياسة.
يقول سماحته: يجب و(ضرورة توفر ركيزتين أساسيتين لصلاح المجتمع، هما ركيزتان:
– الوعي العالي.. (ندعوها البصيرة النافذة).
– والاستماع من الحكماء.. (ضرورة وجود الحكماء في الفتن والأخذ بأقوالهم).
حيث أن فقدانهما يحول المجتمع إلى “أبناء القيل”، فينجر وراء الشائعات التي تصنعها مراكز اجنبية مختصة بذلك لخلق الفتن وتخريب البلد، ويتقلب المجتمع بتقلب موجة الشائعات، كما وصفهم أمير المؤمنين (عليه السلام): “اتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح”.
-
حكماء العصر هم المراجع الكرام
والحكمة مقرونة بالكتاب الحكيم، والحكماء في هذا العصر هم أولئك الذين أخذوا الحكمة من كتاب الله الحكيم، وسنَّة رسوله الكريم، صلى الله عليه وآله،فعرفوا مواطن الضعف في الأمة، ومواطن العطب في المجتمع فمن الضروري أن يكونوا هم القادة في هذه الفتنة، وعلى الأمة أن تكون تبعاً لهم، فهم الكهف الحصين لها، وهم الملاذ والمعاذ كما أثبتت التجارب خلال العقدين المنصرمين من تاريخنا المعاصر..
وهذا ما بينه سماحة السيد المرجع بقوله: (السبيل إلى النجاة من هذا المصير هو إلتفاف أبناء المجتمع حول القيادة الربانية، التي تتمثل في المرجعية الدينية التي تعدّ إمتداداً لخط النبي وأهل بيته (عليهم السلام)، والتي لابدَّ أن تتصف بصفاتٍ كثيرة تؤهلها لقيادة المجتمع، مبيّناً أن قوة التشيع تكمن في هذه النقطة المحورية، كما أثبت ذلك التاريخ، حيث تمكنوا من دحر أخطر تنظيمٍ إرهابي في العالم بفضل الإنضواء تحت راية المرجعية الدينية، وبيّن سماحته بأن المجتمع اليوم أيضاً يمكنه أن يغير التاريخ بفضل هذه القيادة، شريطة أن يقوم أبناء المجتمع بالإستماع إليها والأخذ منها، وترك المصالح الشخصية والحزبية جانباً، ليكون حرب المجتمع وسلمه وحكمه، كله تحت راية المرجعية الدينية).
هذا هو الحق والصدق وهذه هي بوصلة الخلاص للمجتمع العراقي كله من هذه الفتنة العمياء المظلمة، وهنا لا بد من كلمة أذكر فيها إخوتي وأحبتي الغيارى في العراق الحبيب وهي قول أمير المؤمنين الإمام علي، عليه السلام، في توصيفه للفتنة في عصره حيث قال: (أَلاَ وَ إِنَّ أَخْوَفَ اَلْفِتَنِ عِنْدِي عَلَيْكُمْ فِتْنَةُ بَنِي أُمَيَّةَ فَإِنَّهَا فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ مُظْلِمَةٌ عَمَّتْ خُطَّتُهَا وَ خَصَّتْ بَلِيَّتُهَا وَ أَصَابَ اَلْبَلاَءُ مَنْ أَبْصَرَ فِيهَا وَ أَخْطَأَ اَلْبَلاَءُ مَنْ عَمِيَ عَنْهَا وَاَيْمُ اَللَّهِ لَتَجِدُنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَكُمْ أَرْبَابَ سُوءٍ بَعْدِي كَالنَّابِ اَلضَّرُوسِ تَعْذِمُ بِفِيهَا وَ تَخْبِطُ بِيَدِهَا وَ تَزْبِنُ بِرِجْلِهَا وَ تَمْنَعُ دَرَّهَا لاَ يَزَالُونَ بِكُمْ حَتَّى لاَ يَتْرُكُوا مِنْكُمْ إِلاَّ نَافِعاً لَهُمْ أَوْ غَيْرَ ضَائِرٍ بِهِمْ) (نهج البلاغة: خ92)
وأنا أقولها لكم: إني أخوف ما أخاف عليكم فتنة الوهابية المجرمة، فهي الأموية الجديدة، وأصحابها ودعاتها الأمويون الجدد، الذين تعاقدوا وتعاهدوا مع الصهيونية لحربكم وقتلكم ودمار بلادكم بمحاولة لإعادة زبانيتهم وصبيانهم إلى الحكم وتعودوا من حيث بدأتم في عصر الطاغية فيوسعوكم قتلاً وتشريداً..
فقطعان الصهيووهابية المجرمة التي عاثت في الأرض فساداً وإفساداً، تحاول بكل طريقة ووسيلة لضرب مواطن القوة فيكم، لا سيما القيادة الربانية المتمثلة بالمرجعية المباركة، ثم بقوتكم الضاربة الحشد الشعبي الأبطال، الذين أربكوا كل المخططات الأمريكية، والصهيووهابية للمنطقة بانتصارهم الساحق والكبير على صنيعتهم التكفيرية (داعش) الفاسدة الفاسقة، التي تبرؤوا منها ولاحقوها حتى يتنصلوا من جرائمها التي يندى لها جبين الإنسانية، فهم عار على التاريخ البشري..
والآن يحاولون – جهدهم ومكرهم وإعلامهم الكاذب – أن يضربوا هاتين الركيزتين القويتين لديكم بعد أن حاولوا لضرب أكبر إنجاز لكم عبر التاريخ وهي (مسيرة الأربعين) المباركة، فأفشلتم مخططاتهم الخبيثة لضربها والآن جاء دوركم لإفشالهم أيضاً بضرب المرجعية والحشد..
فالعالم ينظر إليكم هل تنتصرون على الوهابية وقطعان الصهيونية المجرمة عندكم، أم تسقطون في الفخ الذي نصبته لكم، وجيشت كل ما لديها من جيوش وعصابات مجرمة وإلكترونية وآلة إعلامية جبارة، وإمكانيات وهابية سعودية هائلة كلها مخصصة لضرب العراق، وإغراقه بالدماء وإدخاله في الفوضى التي تخلق لهم جواً مناسباً للتدخل بشؤونكم من جديد وتفرض عليكم أجندتها باسم الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، وما هو إلا ورقة بيد الصهيونية العالمية وشقيقتها الوهابية المجرمة..
فعلكم بالوعي لحساسية الأوضاع التي يمر بها العراق الحبيب، والالتفاف حول قيادتكم الحكيمة ومرجعيتكم الرشيدة المتمثلة بآية الله السيد السستاني(حفظه الله) والنصر حليفكم والله معكم ولن يتركم أعمالكم، وهذا وعد إلهي فلا تغفلوا عنه..
نصركم الله على أعدائكم من قطعان الظلام الصهيووهابية المجرمة، وأخرجكم من هذه الفتنة أقوى وأمنع من قبل وهيأ لكم حكومة تسمع كلمة المرجعية لتبني العراق الحضاري كما يجب وكما تحبون وترغبون، وما ذلك على الله بعزيز..