أدب

تاريخ الإباء في (أرجوزة كربلاء) للشاعر رضا الخفاجي

لكربلاء .. هذه المدينة الموغلة في القدم تاريخ حافل بالأحداث والتحولات منذ العهد البابلي وقد حمل هذا الاسم المبارك جملة من المعاني التي يذكرها المؤرخون والباحثون فمنهم من يذكر بأن معناها (قرب الإله) وأصل هذه الكلمة جاءت من البابلية القديمة، ولها معنى آخر هو (كور بابل) بمعنى مجموعة من القرى البابلية القديمة مثل نينوى و الغاضرية والنواويس وغيرها، وتأتي أيضا بمعنى (حرم الإله) وقد مرت عليها عبر التاريخ أحداث كثيرة حاولت إنهاكها وطمس معالمها ولكنها كانت الأقوى من كل التحديات وظلت زاهية ساطعة.

وقد ارتأى الشاعر رضا الخفاجي أن يوحي عن طريق أرجوزته المتكونة من 396 بيتاً على بحر الرجز الى أهمية المدينة وإباءها في مقاطع عدة، كل مقطع يتضمن 12 بيتا تيمنا بالأئمة الأطهار عليهم الصلاة والسلام، فلكل حقبة زمنية جعل لها قافية خاصة مختلفة عن باقي المقاطع.

وبهذا فهو ينطلق منذ بداية الخليقة الى واقعة الطف ثم الى ثورة العشرين وغيرها وصولاً الى الانتفاضة الشعبانية وما تلاها من أحداث جسيمة من قمع وظلم كبير ثم الانعتاق من سطوة الطاغية، ويصوغ ذلك التاريخ من خلال أبياته الباسلة المشحونة بكل معاني النهوض و الصبر والتحدي والثبات. فيقول مبتدئاً:

منذ ابتدا الخلق تجلت كربلا

انشودة الطهر وآيات العلا

شرّفهـا الله بأبــــهـــــى ميزة

إذ خصّها بأن تكون المشعلا

جنة عدن أرضها وماؤها

عذب فرات بالعطاء اكتحلا

اِقترنت بالوحي منذ حلّقت

فيها رسالات السماء منهلا

فكربلاء هي المنهل وهي التي تعلمنا البذل والعطاء الدائم وهي رغم كل ما عانت وتعاني من القهر والظلم والاضطهاد على مدى التاريخ، نراها ترقى في إبائها وجمالها لأنها محمية من الله العلي القدير فلها مكانة عظيمة إذ شملها برعايته فزادها علوَاً وبهاءً وقوة وإباء.

أقوى من الآفات من أدرانها

على مدى العصور عاشت ناضرة

أقوى من الأوباش من شرورهم

عصت على الطغاة فهي قاهرة

قد حاولوا تدنيسها فاندحروا

وسفرها الجليل يغني ناظره

سل كتب التاريخ عن امجادها

وانظر لها اليوم تراها عامرة

أقوى من القهر ومن أحقادهم

فكربلاء الحب تبقى آسرة

هكذا هي كربلاء التضحية والفداء عامرة في كل وقت بفكرها، وقبابها، وصلابتها، ومحبتها التي تحضن العالم كله، لأن الكون يدور حولها حباها الله النور والطيبات والبركات والكرامات والألق، فهي التي أصبحت قبلة للأحرار في العالم و تطهرت بدم الإمام الحسين وأهل بيته، عليهم السلام، وأصحابه الشهداء المخلصين رضوان الله عليهم. إنها في رعاية الله وحفظه لن تنام على ضيم، ترنو دائما للعزة والكرامة والإباء.

بأن هذي الأرض من يومها

مهبط وحي وربى مؤمنين

أخبر عن محنتها المصطفى

وجيء من ترابها للأمين

فأودعته وسط قارورة

زوجة طه لترى بعد حين

وعندما استشهد في كربلاء

أمامنا السبط مع الصابرين

تغير التراب من يومها

ليعلن البرهان للعالمين يروي لنا الشاعر رضا الخفاجي بأسلوبه السردي القصصي تفاصيل الخبر الذي جاء به الوحي للنبي، صلى الله عليه وآله، ليخبره عما سيجري في كربلاء، وهو بهذا الاسلوب يدخلنا الشاعر لعمق الحدث المهم، حيث يصورها بكلمات سلسة قريبة من المتلقي توصل ما جرى بدقة ووضوح، بُغية التفاعل معها والتأثر بها وهو ينقل جانبا مهما عن كربلاء الارض والشهادة.

ويستمر في التنقل بين الحوادث والمواقف التي حدثت قبل واثناء معركة الطف الخالدة مع الاصحاب والاولاد ومع ابي الفضل العباس عليه السلام وكأنما يقوم الشاعر بعملية سرد تاريخي ينقله لنا و للأجيال القادمة.

دماء مولاي الحسين الشهيد

زهت بوادي الطف أسمى نشيد

فامتزج الطهر بذرّاتها أرض الرسالات

ومجد تليد فأينعت دماؤه غاية

ديدنها النور وفجر جديد

غايتها الاسلام أن يرتقي

في هذه الأرض بكل العبيد

هذا هو الهدف المنشود من ثورة الإمام الحسين، عليه السلام، هو البقاء للإسلام المحمدي الأصيل، فبه تتحقق الحرية والانعتاق من الذل وأن يرتقي بالعبيد المضطهدين المستضعفين من قبل طغاة الارض الذين تكالبوا على العروش، فيأخذ بهم الى أعلى مراتب الإنسانية والكرامة.

لن يتوقف الظلم والقمع والمعاداة لأهل البيت عليهم السلام، وللحسين ولثورته التي لن تنطفئ حرارتها في قلوب المؤمنين الى يوم القيامة، فلذلك يستمر الطغاة الذين جاؤوا وانتهجوا نفس الاسلوب الترهيبي والدموي والعدواني.

فكم هدموا قبر الحسين، عليه السلام، وكم حاربوا زواره العاشقين على مدى التاريخ لكي يطفئوا نور الله وجذوة الثورة.

فمنهمُ من قطعوا يديه

وسملوا عينيه وهو صامد

فقتلوا الآلاف دون جرمٍ

ليمنعوا زيارة الأماجد

ولكن هيهات أن يكون ذلك فالكلمة الفصل كانت للثورات والانتفاضات وآخرها الانتفاضة الشعبانية التي عبّرت عن عزة وكرامة وإباء المدينة وأهلها ضد الطغاة فارتقت كربلاء ولاتزال .. وستبقى.

أرى أن الشاعر رضا الخفاجي قد وفق بإسلوبه التوثيقي في تدوين المواقف والأحداث شعريا وقد كان حريصاً وأميناً على ذلك بشكل كبير.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* أرجوزة كربلاء – كراس من منشورات العتبة الحسينية المقدسة.

عن المؤلف

كفاح وتوت

اترك تعليقا