لكل كاتب وشاعر هويته الثقافية والاجتماعية والدينية، وإن الانتماء صفة مترسخة في العقل والروح يتميز بها أي إنسان تربّى على مجموعة من القيم الانسانية والأخلاقية المتوفرة في بيئة معينة، حيث تنعكس هذه القيم والمفاهيم على مضامين وطريقة الكتابة فتراها متجسدة في المفردة المنتقاة وفي المعاني الظاهرة والمضمرة داخل النص، بحيث ينقلك الى عوالمه العميقة وجمالياته فترى روح الشاعر وشخصيته حاضرة في النص بحكم انتمائه الشديد لأرضه التي ترعرع فيها.
ينطلق الشاعر عودة ضاحي التميمي في معظم كتاباته الشعرية من تربة خصبة ندية لها عبق منعش، معبرا عن عشقه، وانتمائه وتجذّره كشجرة مثمرة زاهية في أرض باركها الله وقدّسها بوجود سيد الشهداء أبي الأحرار الإمام الحسين، عليه السلام، فيبحر في تاريخها و تراثها وطقوسها، متنقلاً من حالة الى حالة، ومن مكان الى مكان ليصور لنا بحرفية الشاعر، تلك الممارسات الاجتماعية الطقسية، فيفتتح القصيدة بأضدادها التي تميزت بها مدينة كربلاء المقدسة، وبها تبدو المدينة أكثر بهاء وقوة حيث ينتقي كلماته بعناية كبيرة ووعي عال إذ يقول وهو يفتتح القصيدة:
تتألق في عينيها الأضداد
فرح ….
يشربه القلب
مزاجاً ……
حزن ….
يمتص رحيق الروح يعشش فيها
حتى تغدو كالصلصال
فالفرح له ألق، والنهار له ألق، وهكذا يسعى الشاعر ليتنقل بنا بين مناطق طقسية وجمالية ليروي شغفنا وتوقنا بنهره الشعري العذب وبأضداد جعلها لازمة في النص بتنوعها وهي راسخة في عوالم المدينة، ففي منطقة أخرى أخذنا الشاعر قرب الماء حيث الطقس الخالد سنويا ليلة النصف من شعبان ليلة (المحية) ورغم كونه ليلاً وإن طال لكن له من الجمال والقدسية والسطوع بالتظافر والمحبة:
ليل……. في كفيه بهاء
…..
يشرق شمعا مبتهجا
عند (مقام المهدي)
يتألق نجماً قطبياً في الماء طروبا
ومن الليل الى نهار يبزغ من بين القباب الساطعة كالشمس يرسم الشاعر صورته الناصعة، وانتمائه الفكري العميق لهذه البقعة المقدسة، انتمائه للقيم والمبادئ التي رسخها الإمام الحسين، عليه السلام، في نفوس الموالين وحتى المخالفين.
ثم يقودنا الى بهجة أخرى في مراسيم الحزن المبجل وقد حدد المكان الذي هو مكان خالد في الذاكرة الجمعية وهي منطقة الفسحة في محلة باب الخان، والتي تحلينا جميعا الى طفولتنا التي شهدت الكثير من تلك الطقوس مبتهجين بها حبا وانتماءً رغم الحزن المُخيِّم على المدينة إذ يقول:
تتوهج فيه (تكايا الفسحة والجمهور)
ويطوف (الهودج) في الاسواق المسقوفة
يبعث دفئا للمنتظرين أذان الفجر
يتوغل الشاعر بلغته المتمكنة، و بنهره الذي يزحف كي يغدق الأرض والرمل بماء الشعر والحب والانتماء، فتنبت أشجار الفكرة والمعنى والانتماء الروحي لتنتعش الروح ويتوهج العقل، ويتبين الطريق والهدف؛ فكل ما يدور في المدينة من طقوس واحداث وتجمعات مليونية يصب في عالمية المدينة، ويبرز من خلالها هدفية الاستشهاد في واقعة الطف، وديمومة اهدافها، ورمزية حضورها الكوني على مدى العصور ليبقى الفكر ناصعا والعقول ساطعة ليتحقق الهدف المنشود في حياة كريمة مثمرة :
سيدة الحزن المورق كانت أمس
تخاصم نهرا سمل العينين بذل تقاعسه
وتخطى نحو القبر
وتعانق نهرا…
يزحف مشتاقا
يلقم جوع الرمل دماء يديه
فتباركه…
حين تلقبه
أو تعطيه بعض ملاحمها
يا هذا النهر العاشق.. بسملْ
كي يتوضأ في عينيك
أذان الفجر
سراة الفجر
تباريح التمجيد
حتى ينمو في جنبيك
فسيل النخل
هكذا يتألق الشاعر عودة ضاحي التميمي في محليته المنفتحة على العالم بكل ما تحمل من موروث ثقافي ومن فكر ومن قوة وثبات وتضحيات يتعلم منها كل الأحرار في العالم، لتبقى مدينة الفداء رمزا حضاريا وفكريا كبيرا وسراجا لن ينطفئ، فالموروث هو الزاد وهو سفينة النجاة وهو الخير والصلاح والمحبة.
هكذا تخلّد النصوص الشعرية حين تكون عميقة الجذور، صافية المنبع، عذبة كالفرات وهي تروي ظمأ المحبين، وتهذب النفوس فيكون الاندماج، ووحدة الانتماء، وعالمية الأهداف.
وهكذا تتألق المدينة المقدسة بكل تفاصيلها وأضدادها؛ في الحزن والفرح، في ليلها ونهارها، وبطقوسها وزوارها، وبقبابها ومآذنها الساطعة رغم عتمة الدهور.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* النص هو نص المجموعة التي تحمل ذات العنوان الصادرة عام 1998 عن المكتب الاستشاري الهندسي – كربلاء لمقدسة.