بدءاً لابد من التذكير بأنه لا يوجد تناقض بين الأصالة و الحداثة، حيث يمكن للأصيل أن يكون حديثا، وللحديث أن يكون أصيلا، فالأصالة تعني عدم المساس بالجوهر، وعدم تبجيل الشكل والانتقاص من المضمون، كذلك الحداثة المتوازنة لا تهمل الجوهر، ولا تغالي في توصيف ومدح القشور أو الأشكال الخارجية وتهمل المضمون.
هذه التوطئة القصيرة في مقدمة المقال لابد منها، لأننا نبحث في كيفية تعامل شريحة الشباب مع الأصالة من جهة، ومع الحداثة من جهة أخرى، فالحقيقة أن عالمنا اليوم يتعكّز على الحداثة وما بعدها، وهناك أقطاب دولية معروفة، وهي معظمها (شركات كبرى) تسعى لإغراق العالَم بالسيول المادية، وهي بذلك تستهدف عقول الشباب، كي تشغلها عن الأصيل بالبديل.
ولو كان هذا البديل خاليا من الضرر، لما كان هناك أي اعتراض عليه، لكن هذا البديل يريد أن ينسف الأصيل، وهذه الحداثة في بعض جوانبها، لا تعترف بالجذور الأصيلة للشعوب، بل تنظر لها على أنها لا تواكب الروح الجديدة التي تقود البشرية نحو عالم آخر معمَّد بالحداثة المادية القاهرة، أو الحداثة المادية المهيمنة على القيم وعلى كل الثقافات والأعراف والأفكار الأصيلة للأمم وحتى الشعوب.
فعلى سبيل المثال لا يزال شباب اليابان حتى هذه اللحظة، يتمسكون بثقافة الأجداد ويحفظونها جيدا بل ويلتزمون بها، وفي نفس الوقت نجد هؤلاء الشباب اليابانيين في قمة الحداثة من حيث التفكير والإنتاج أيضا، فهؤلاء الشباب يمثلون نموذجا للموازنة بين الأصالة والحداثة، لأنهم من جانب لم يتخلوا على قيمهم الأصيلة و أعرافهم الاجتماعية، ولا ثقافة أجدادهم، ومن جانب آخر تعاملوا مع الحداثة العميقة الفعلية المفيدة ولم يتعاملوا مع (قشور الحداثة)، وهذا هو المطلوب من جميع الشباب المسلمين أو غيرهم.
الشاب الذي يسقط في فخ المادية ويفضل الملبس الصارخ والأشكال المغرية، فإنه يعالج نقصا في داخله، وهذا يعني بأنه يعاني من مرض أو مشكلة نفسية
شبابنا اليوم لا يختلفون عن شباب الأمم الأخرى، لأنهم شباب أذكياء متكاملون في الرؤية والثقافة والتطلعات المستقبلية، شبابنا، لا تغريهم المادية المتفشية، وفي نفس الوقت لا يهملون الحداثة المفيدة المتوازنة، التي لا تفضل المادية على المعنوية، ولا تهمّش الأصالة وتبجّل الشكلانية الفارغة من المعنى والهدف.
أما أولئك الذين تغريهم الأشكال السطحية للأشياء، كالملابس الصارخة، أو السيارات الحديثة، أو الموبايلات التي تحمل في مواصفاتها أضعاف ما يحتاج له البشر، فهذه الأشياء ليست هي التي تعبّر عن المعيار الصحيح للشاب الناضج، فالملبس الصارخ لا يصنع شابا مقتدرا ذكيا وطموحا وناجحا، وكذلك السيارة الفارهة، ليست أكثر من مظهر وفخفخة فارغة، لأن الشاب الذي يسقط في فخ المادية ويفضل الملبس الصارخ والأشكال المغرية، فإنه يعالج نقصا في داخله، وهذا يعني بأنه يعاني من مرض أو مشكلة نفسية.
أما الشاب الذي يتمسك بالأصالة ويحترم الحداثة العميقة في أفكارها ومضامينها، فإنه لا يمكن أن يشغل نفسه بالقشور، بل تجده دائما، متمسكا بجذوره الصيلة، ثقافة وعقيدة وشريعة وأخلاقا وأعرافا، وفي نفس الوقت يتعامل مع الحداثة، ولا يعزل نفسه عنها في غرفة خاصة، بل تجده يواجه كل شيء يستجد في العالم، يدخل فيه ويواجهه ويتعامل معه ويعرفه جيدا، وفي حال يكتشف زيفه مثلا فإنه يتخلى عن التعامل معه، وهذا حق لكل شاب متعلم ومثقف.
التمييز بين الأصالة والحداثة، ليس عسيرا ولا عصيّاً على الشاب المسلم الملتزم الواعي، بل هو قادر على التمييز بينهما، والتمسك بأصالته، وفي نفس الوقت لا يخشى التعامل مع الحداثة
من هنا لابد أن يتنبّه شبابنا، إلى قضية وجوب الموازنة الدقيقة والصحيحة بين الأصالة و الحداثة، وتبدأ هذه الموازنة أولا بفهم ما تعنيه الأصالة ومقترباتها، وفهم ما تعنيه الحداثة ومستجداتها، وعندما يفهم الشاب الحداثة وكل ما يتعلق بها، سوف يمكنه التعاطي السليم معها، ويمكنه أن يفرز السليم من عكسه في الحداثة، فيبتعد عنه أو يلغي التعامل معه.
أما الأصالة فعلى الشاب أن يدقق فيها جيدا، خصوصا جذوره الثقافية، وقيمه التي تربّى عليها، ودينه، وعقيدته، والعرف السائد في مجتمعه ومحيطه وبيئته، وبعد ذلك سوف يكتشف ذلك الزيف الذي يغلّف السيول المادية، ومغرياتها، ثم يقارن بين القطبين، ولا شك بأنه سوف يعثر على هدفه وغايته في الأصالة السليمة، في حين أنه سوف يكتشف أيضا ضحالة (الحداثة المادية) التي تركز على إغراء البصر قبل العقل.
هذا التمييز بين الأصالة والحداثة، ليس عسيرا ولا عصيّاً على الشاب المسلم الملتزم الواعي، بل هو قادر على التمييز بينهما، والتمسك بأصالته، وفي نفس الوقت لا يخشى التعامل مع الحداثة، لأنه قادر على تشريحها جيدا وفهما، وفرز السليم منها عن غير السليم وتجنبه، مع أهمية الموازنة الصحيحة بين الأصالة من جهة و الحداثة من جهة ثانية.