المتأمل في النهضة الحسينية المباركة، والباحث فيها، والمستفيد من عبرها ودروسها الراقية، يجد أن أهم و أول درس هو؛ فضح الأمويين، وكشف الغطاء عنهم، فظهروا على حقيقتهم الخبيثة، ولم يستطيعوا بعدها أن يتغطُّوا بغطاء النفاق، أو يتدثروا بدثار الرِّياء، ليُخفوا على الأمة حقيقتهم البشعة، ومخططهم التدميري الذي ساروا عليه بوضح النهار، دون خوف أو وجل.
فبني أمية، تلك الشجرة الملعونة في القرآن، والكلمة الخبيثة التي حاربت الله و رسوله ودينه في كل الحروب وجيَّشت الجيوش، وحزَّبت الأحزاب لحرب رسول الله، صلى الله عليه وآله، بمحاولة لإطفاء نور الله في هذه الحياة ولكن الله تعالى أخزاهم، ونصر رسوله عليهم في كل الحروب والغزوات، ولم تمضِ سنوات حتى دخل رسول الله والمسلمون مكة المكرمة فاتحاً لها، ومطهرها من الأصنام والأوثان، وجمعهم كلهم، وأطلق عليهم كلمته المشهورة: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”.
فدخلوا في الإسلام كرهاً، واستسلموا خوفاً، وأضمروا كفراً ونفاقاً طيلة سنوات عجاف مرَّت على أهل البيت، عليهم السلام، الذين انقلب عليهم رجال قريش قبل انتقال رسول الله، صلى الله عليه وآله، إلى الرفيق الأعلى، وأصروا على انقلابهم رغم يقينهم بأنهم على خطأ، وأن أمير المؤمنين، الإمام علي، عليه السلام، أولى بهم من أنفسهم، وهو ولي كل مسلم ومسلمة، كما أقرّ بذلك جميع الصحابة يوم الغدير ومنهم؛ الخليفة الثاني، وهو أحق بالخلافة والحكم بعد رسول الله أي انسان آخر، ولكن بريق السلطة، والجاه، والحكم، والدنيا هي التي غلبت عليهم فأدخلوا الأمة في متاهات لم تخرج منها إلى اليوم.
-
خطوات لعودة الأمويين الى السلطة بإسم الاسلام
ولكن هؤلاء أوصلوا بني أمية لحكم الدولة الإسلامية بعد اثني عشر سنة فقط، فصارت المقاليد كلها بيد أبي سفيان الذي جاء ذات مرة الى عثمان، ودخل مجلسه – حسب الرواية- بعد أن كُفَّ بصره، فقال: “هل علينا من عين (جاسوس رقيب)؟ فقال له عثمان: لا.
فقال: يا عثمان! إنّ الأمر أمر عالميّة، والملك ملك جاهليّة، فاجعل أوتاد الأرض بني اُميّة”، وفي تاريخ دمشق: “الأمر أمر جاهليّة، والملك ملك غاصبية”.
وعن المسعودي في مروج الذهب، قال: “قد كان عمّار-حين بويع عثمان – بلغه قول أبي سفيان صخر بن حرب في دار عثمان، عقيب الوقت الذي بويع فيه عثمان، ودخل داره ومعه بنو اُميّة، فقال أبو سفيان: أفيكم أحد من غيركم -وقد كان عَمِيَ- ؟ قالوا: لا.
فقال: يا بني اُميّة، تلقّفوها تلقّف الكرة، فوَالذي يحلف به أبو سفيان ما زلتُ أرجوها لكم، ولتصيرنَّ إلى صبيانكم وراثةً”.
وهذا ما حذَّره منه الخليفة الثاني عند وفاته حيث قال: “هبها إليك كأني بك قد قلدتك قريش هذا الأمر لحبها إياك، فحملتَ بني أمية وبني معيط على رقاب الناس، وآثرتهم بالفيء، فسارت إليك عصابة من ذؤبان العرب فذبحوك على فراشك ذبحاً، والله لئن فعلَتْ لَتفعلنّ ولئن فعلتَ لَيُفعلن بك، ثم أخذ ناصيته وقال: فإذا كان ذلك فاذكر قولي”.
فرجال قريش كانوا على بيِّنة وعلم مما سيؤول له الأمر إن وصل عثمان الأموي إلى السلطة لأنه مولع ببني أمية اللعناء على لسان سيد الأنبياء، وهو شخصية ضعيفة حين كان قوياً فكيف به حين كبر وشاخ وضعف، فكان مطيَّة لبني أمية عامَّة، وسوقة لمروان بن الحكم “الوزغ ابن الوزغ الملعون ابن الملعون عليه اللعنة وعلى من يخرج من صبله” بقول الصادق الأمين، صلى اله عليه وآله.
فهو الذي مكَّن لفرخ أبي سفيان في الحكم، بعد أن عيَّنته السلطة القرشية كجائزة ترضية لأبي سفيان للسكوت والانضمام إليهم، وللوقوف بوجه أصحاب الحق من أهل البيت الأطهار، عليهم السلام؟
وتستغرب من رجال السلطة القرشية الذين كانوا أشداء على كل الولاة، وبل على أنفسهم وأهليهم، ولكن على معاوية فكان “لا يأمره ولا ينهاه”، بل كان يمدحه على فسقه، ويُطريه على معصيته، فيقول: “هذا فتى قريش وابن سيدها”! كما في البداية والنهاية عن الزهري.
هذا الطليق ابن كهف المنافقين بالتبني، لأن الزمخشري يقول بأن معاوية دَعِيُّ أربعة وغلب عليه ألأمهم أبو سفيان، قضى عشرين سنة في الحكم كوالي مطلق اليد والتصرف في الشام، التي لم تعرف من الإسلام إلا ما جاء به معاوية وأهله وحزبه من قريش الجاهلة بالإسلام، فعرفوا إسلام معاوية الذي لم يروِ لهم حديثاً واحداً في فضل أمير المؤمنين، عليه السلام، خاصَّة وأهل البيت عامَّة، بل علمهم كذباً وزوراً بأنه كاتب الوحي، وخال المؤمنين، فخضعوا له أكثر من خضوعهم لرسول الله، صلى الله عليه وآله، لأنهم لم يعرفوا من سيرة وسُنَّة رسول الله إلا ما أوصله لهم، وهل أوصل إلا الكذب والدجل في فضائل بني أمية أعداء الله ورسوله؟!
-
بداية مسلسل الفضيحة
ثم بعد الصلح والهدنة التي عقدها الإمام الحسن المجتبى، عليه السلام، بحنكته السياسية لفضح تلك الطبقة من نفاق معاوية، لأن شطراً من الأمة كانت ترى وتعتقد أن كلامه وأحكامه صحيحة ومتطابقة للدِّين الحنيف، والكتاب الكريم، والسُّنة النبوية المطهرة، فأراد الإمام الحسن السبط، عليه السلام، أن تكشف الأيام والوقائع زيف معاوية ونفاقه ويفضح نفسه بنفسه، ودينه بفسقه ومعصيته.
فكانت هدنة الإمام الحسن، عليه السلام، أعظم خطة لفضح بني أمية دينياً، واجتماعياً في الأمة، وهذا عرفته الأمة خلال عشر سنوات عجاف قَتَلَ فيها الصُّلحاء، والأتقياء، ولاحق الصحابة، واستهان بالأنصار مراراً، ولم يقر له قرار حتى دسَّ السمَّ للإمام الحسن، عليه السلام، فاستشهد وهو شبيه النبي وسبطه الأكبر، فعرفت الأمة معاوية على حقيقته وكشفت نفاقه وزيفه وإجرامه بحق الإسلام والمسلمين جميعاً.
وهذا ما ورَّثه لابنه المستهتر الذي لا دين له ولا حصافة، ويفتقد لأبسط قواعد الأخلاق الإسلامية لأنه تربية أمه ميسون الكلابية النصرانية حيث تربَّى عند أخواله تربية النصارى، فكان لا يفقه شيئاً من الدين الإسلامي، ولا من الشريعة، من حلاله، وحرامه.
-
يزيد، المحاولة المستميتة لاستلام السلطة
فيزيد الشر كان مولعاً بسياسة الكلاب والفهود، وملاعبة القرود، وأما سياسة الأمة فهو الذي أراد أن يُبيدها ويُحقق حلم والده الخبيث بدفن معالم الدين؛ “لا والله إلا دفناً دفنا”، ولكن كيف السبيل لذلك وصاحب الولاية الحقيقية، والإمامة الواقعية؛ الحسين بن علي، سبط النبي، على قيد الحياة، والذي كان شرط الهدنة “ليس لمعاوية أن يعهد إلى أحد من بعده، وأن تكون الخلافة بعد معاوية إلى الحسن وبعده إلى أخيه الحسين”.
ويزيد يعلم ذلك، و أوضح له مستشار والده، سرجون ذلك أيضاً، وربما أعطاه رسالة ووصية من والده الطاغية، بأن لا يتهاون مع الحسين بن علي بأخذ البيعة، إذ لا سُلطة له ولا حُكم والحسين لم يبايع، ولا شرعية لحُكمه وصاحب الشرعية في المدينة المنورة ولم يعط ولم يبايع.
ولذا أرسل رسالته للوليد بن عتبة والي المدينة يأمره فيها؛ “أما بعد، فخذ حسيناً وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، بالبيعة أخذاً شديداً ليست فيه رخصة حتى يبايعوا”، وفي رواية أخرى: “مَنْ لم يبايع فاضرب عنقه وأبعث إليَّ برأسه”.
فرفض الإمام الحسين، عليه السلام، البيعة في المدينة وخرج إلى مكة المكرمة، فبعث إليه يزيد بثلاثين شيطاناً من شياطين الشام وأمرهم؛ “أن يقتلوا الحسين ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة”.
فخرج منها في يوم التروية، قاصداً الكوفة رغم أن خبر الغدر واستشهاد سفيره وابن عمه البطل، مسلم بن عقيل، وصله مبكراً من رحلته المظفرة إلا أنه كان لا بد له من متابعة المسيرة حتى النهاية المأساوية في كربلاء، حيث “شاء الله أن يراني قتيلاً، وشاء الله أن يراهن سبايا”، فالأمر أمر المشيئة الربانية، ولا رادَّ لقضائه، ولا دافع لقدره.
وذلك لأن بني أمية استفحل ظلمهم، وشاع في الأمة فسادهم، ولكن القوة والشدة، والبطش الأموي جعل الأمة تخضع، وتخنع للحاكم الظالم، مهما فعل من موبقات، أو ارتكب من معاصي أو فسق عن أمر ربه ودين نبيه، ولكن القاعدة الذهبية في الدِّين الإسلامي الحنيف “لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق”، ومعاصي يزيد فاضحة واضحة بحيث عندما زاره عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة، مع وفد من الأنصار و رؤوا معاصيه واستهتاره وفسقه، كانوا يقولون: “جئناكم من عند شخص لا دين له، شرّاب للخمر، زانٍ، قاتل للنفس المحترمة، ويلاعب الكلاب ولابد أن نعزله من الخلافة”؛ ثم دعوا الناس إلى خلع يزيد من الخلافة، وأخرجوا بني أمية وطردوهم من المدينة.
وقال ابن هذا الصحابي الجليل المعروف: “يا قوم! اتّقوا الله وحده لا شريك له، فوالله ما خرجنا على يزيد حتى خِفْنا أن نُرْمى بالحجارة من السماء، إنّ رجلا ينكح الأمّهات والبنات والأخوات ويشرب الخمر ويدع الصلاة، والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليتُ لله فيه بلاءً حسنًا”.
-
النهضة الحسينية، الصدمة
هذا هو الواقع المزري الذي نهض به الإمام الحسين، عليه السلام، لإيقاظ الأمة من سُباتها، وتنبيهها من غفلتها، وتوعيتها مما يُراد لها من صبيان النار من بني أمية الطلقاء، الذين حرَّم الله ورسوله عليهم الخلافة والحكم بشهادة الإمام الحسين، حين قال لمروان: “ولقد سمعتُ جدي رسول الله يقول: إن الخلافة محرمة على ولد أبي سفيان”.
ونهضة الإمام الحسين، عليه السلام، كانت الصدمة -كما يسميها الشهيد الصدر الأول- التي جعلت الأمة تفيق على عظيم الكارثة التي ارتكبتها بحق دينها، ونبيها، وإمامها الحق، ومن كارثة أخرى بعد واقعة كربلاء، وهي واقعة الحرَّة في المدينة، واستباحتها، وهتك أعراض المسلمين، إلى دكّ الكعبة المشرفة وإحراقها، فكلها كوارث يندى لها جبين الانسانية.
والإمام الحسين، عليه السلام، منذ اللحظات الأولى قال: “وأني لم أخرج أشراً، ولا بطراً، ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جدي”، ولكن ضريبة الإصلاح كانت كبيرة وفادحة لأن حجم الفساد الأموي كان كبيراً جداً بحيث كاد أن يدفن الإسلام وُينهي المسلمين، فجاءت النهضة لكشف بني أمية للأمة والتاريخ والإنسانية التي تبحث عن الحق والعدل والدِّين.